محمد الحافظ الغابد - برج البراجنة عندما تدلف إلى أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان وتشاهد الوضع المأساوي لمئات الآلاف من الفلسطينيين تشعر بثقل وطأة المواقف العربية المتخاذلة تجاه القضية الفلسطينية ورغم أن بعض هذه البلدان ضحى بالكثير لصالح القضية الفلسطينية وخصوصا في لبنان
إلا انك في المخيمات الفلسطينية تشعر بالحرمان والعزلة المفروضة على هذا الشعب ليس داخل الضفة والقطاع حيث هيمنة سلطات الاحتلال بل هنا على الأراضي العربية حيث أقام الفعل السياسي العربي وتناقضاته المختلفة معازل ضيقة ذات تكوين خاص تفتقر للمرافق الحيوية الضرورية ويأتي التبرير الرسمي في هذه اللحظة مُعبرّا عن الفكر العربي الرسمي المأزوم لهذا العهد من تاريخ الأمة مٌلَخَصاً في حتمية أن يعيش الفلسطيني ألم البعاد عن وطنه على الأرض العربية حتى لا يتخلى عن العودة باندماجه في محيطه العربي. هذا السبب المشبع بالحرص على الإنسان والأرض الفلسطينية هو سبب مُقنِع لمن ينظر من بعيد ولكنه مقزز ويندرج ضمن النظرة العنصرية التميزية مهما كانت مبرراتها مُقَـنَّعَةً بالسعي للحفاظ على الأرض والحقوق الوطنية الفلسطينية.
المعاناة المقننة
ألزم اتفاق الطائف السلطات اللبنانية بالمحافظة على وضع المخيمات الفلسطينية البائس حيث تم إدراج رفض التوطين في اتفاق الطائف الموقع في 1989، ثم أدخل في مقدمة الدستور اللبناني، التي تضمنت نصا يقول بأن "لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين" وبذلك طحنت كماشة القوانين اللبنانية أي أمل للفلسطينيين بالعيش الكريم على الأرض اللبنانية وستحكي المخيمات الإثني عشر في لبنان قصة ملحمية في التاريخ العربي المعاصر حيث تحطمت قيم النخوة والنجدة العربية بشكل غير مسبوق في التاريخ العربي ولا محالة يغشاك الغثيان وان تقرأ لائحة الممنوعات الاثنتين والسبعين التي سُطِرَت لتكرس تعاسة المخلوق الكائن فلسطينيا على أرض العرب هذه المرة وليس في نطاق سيطرة سلطات الاحتلال داخل الأراضي المحتلة.
تشعر وأنت تتجول داخل مخيم برج البراجنة في بيروت بحجم المعاناة التي فرضت على أبناء المخيمات الفلسطينية السكان هنا يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة العاشرة حيث يمنع السكان من الحقوق المدنية والاجتماعية وكتبت أقدار هذا الزمن على الآلاف أن يتكدسوا في مساكن ضيقة جدا وأن يتلقوا الإعاشة والتعليم من اليد الأجنبية ممثلة في وكالة تشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" ولا يمكن للفلسطيني في الحال الاعتيادي الولوج إلى الخدمات الاجتماعية العامة كالمنشئات الصحية والمؤسسات التربوية مما يجعل الكثير من أبناء هذه المخيمات يحلمون بشيء واحد فقط هو الهروب من جحيم هذه المخيمات.
واكبر جريمة تمارسها البيروقراطية اللبنانية هي تلك المتعلقة بمنع الشعب الفلسطيني المقاوم من الحصول على تعليم معقول لأبنائه حيث لا توجد مؤسسات للتعليم سوى تلك التي تديرها وكالة تشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين "أنروا" ونظرا لغياب أفق العمل للخريجين فإن الكثير من أطفال الأسر الفلسطينية يتسربون من المدارس ليساعدوا ذويهم في البحث عن لقمة العيش اليومي بينما تسرب آخرون نظرا لفقدان الأمل بالحصول على وظيفة نظرا لجيش البطالة المدوي الذي يحميه سلبا قانون التميز أو على الأصح قانون المنع العربي المسكون بالأزمات المقيتة.
تجاعيد الحروب
تشعر وأنت تتجول في الأزقة الضيقة لمخيم برج البراجنة بعظمة الأقدار الإلهية التي خلقت هذا الشعب لخوض هذه المحن فهنا تحدثك الجدران وندوب الرصاص بفصول من تاريخ القضية الفلسطينية حيث خاض الفلسطينيون وهم في مخيمات الإبعاد ملحمة مقاومة ضد الاجتياح الإسرائيلي 1982 وتومئ لك الجدران بأنها مثل ساكنيها تحفظ أقاصيص التصدي والصمود التي احتفظت بها حلة قشيبة بعدما تنكر الآخرون للذاكرة التاريخ عبر تغيير جلودهم تحت يافطة إعادة الإعمار وكأنها أوحت إلي بــ"أن من يبدل جلده يكون قبل ذلك قد بدل ضميره".
لا تسمح قائمة الممنوعات اللبنانية لسكان برج البراجنة بإعادة ترميم المخيم الذي عرف اجتياحات ممتالية واقتتالا فلسطينيا داخليا عبر مسيرته الطويلة نسبيا منذ الأربعينيات وهو رغم ذلك يعض على صدوعه كما عض على جراحه الثخينة متشحا بندوب الرصاص التي غدت كالزركشات يحتفظ بها جزئا من ذاكرته بها يتذكر شبابه وعنفوانه المترع إيمانا بالقضية المركزية وإيديولوجيتها الجامعة بين نقيضي الثبات والارتحال عبر الزمن رغم تبادل الإيديولوجيات وتناسخها صعودا وهبوطا في تيارات الوطنية الفلسطينية.
عناق الكوفية والبندقية
في هذه الأزقة الضيقة تصادفك لافتات الحركات الوطنية الفلسطينية ويصادفك المسلح الفلسطيني الذي يتأبط بندقيته في انتظار الواجب المؤجل والمكبل بقيود تتجاوز لائحة الممنوعات الاثنتين والسبعين وللوهلة الأولى تصاب بالذهول عندما ينصحك مرافقوك بعدم التصوير لأن هذا المبنى ذي الأجزاء المتداعية من آثار حروب واقتتال مضت أزمانه ثكنة عسكرية يمنع تصويرها !! .. لكنك ربما تجد أن تفسير كل تلك الألغاز الأشبه بلعب الأطفال تختزن معنى الإصرار على العودة والنضال من اجل استرجاع الدار التي لن تزال العجائز تحتفظ بمفاتيحها بعد مضي أكثر من سبعة عقود.. إنها قصة التشبث الفلسطيني بالحق.. ذات الرموز والدلالات الفلسطينية البعيدة.
وكأن ذلك الشاب المسلح في أزقة برج البراجنة ينادي في أعماقه بأعلى صوته "إن حلمنا بالعودة والتحرير يتجاوز قوائم الممنوعات ومتاريس الحدود وحواجز الخنوع التي تصنعها سلطة أوسلو أو أي سلطة أخرى .. إننا ننتظر ذلك اليوم القادم .. ذلك اليوم الذي سنصنعه عبر تيار الزمن المتدفق ليسترجع الفلسطيني أرضه .. والأمة أقصاها .. "إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا".
|