مخيم برج البراجنه .. عنوان لنكبة لا تنتهي
الاثنين, 20 سبتمبر 2010 13:11

محمد عبد الله ولد لحبيب - بيروت

يروي لك من تشاء هنا ما تشاء من عذابات وقت ما تشاء..لكل نصيبه من مأساة تتجدد .. تحفر أخدودها على قسمات شعب يأبى الترجل.. كل تفاصيل "القضية" حفرت هنا على الجباه والشفاه والمنازل .. تدهمك الصور المكبرة لرموز الشعب الفلسطيني أبطال المقاومة. هنا يعطونك الرواية الصحيحة لقصة شعب يأبى الانكسار ..رغم المآسي. على مداخل مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين يقف الشيخ أحمد ياسين ورفاق دربه .. أبو عمار وصحابه وغيرهم من أبناء فلسطين .. الكل يروي القصة ذاتها وإن اختلفوا.. قصة شعب نُكِب.

الشموخ وسط ركام البؤس، هذا ما تقوله الأزقة المتعرجة هنا تغطيها أسلاك الكهرباء وأنابيب المياه مدلاة فوق الرؤوس على ارتفاع عدة سنتمترات "المخيم لا تدخله السيارات.. فكما ترى لا يوجد هنا طريق صالح لذلك .. يتعذب الناس هنا كثيرا بسبب هذه الصعوبة وعندما يحضر أحدهم بعض الأمتعة يتضاعف العذاب.." يقول دليلنا. " هذا الطريق الذي تمرون منه يؤدي إلى المستشفى وإلى مقر اللجنة الشعبية ومع ذلك لا يتسع لشخصين". سنعلم لاحقا أنه يؤدي إلى السوق الرئيس بالمخيم وإلى "مكاتب" الفصائل الفلسطينية .. وهو أيضا مؤد إلى المقبرة.

الدخل هنا لا يكفي:

برج البراجنة واحد من اثني عشر مخيما أوى إليها اللاجئون الفلسطينيون بعد النكبة سنة 1948. تحوي المخيمات أربعمائة وعشرين ألف لاجئ. يعيش في برج البراجنة بحسب إحصاءات الأونروا لسنة 2009 ستة عشر ألف شخص غالبيتهم من العاطلين عن العمل. متوسط إنفاق الأسرة المالكة لما يسمى هنا بالسكن- محاكاة- حوالي ألف ومائتي دولار، ومتوسط دخل الفرد ثلاثمائة دولار أمريكي. لا تسأل بعد من أين يحصلون على الفرق، لأن أحدا لا يملك الإجابة. مساعدات الأونروا لا تغطي إلا قسطا زهيدا من الفرق الشاسع بين مستوى الدخل والحد الأدنى للعيش.

"الرفيق أحمد " (هكذا يقدم نفسه) يعمل بائعا في محل لبيع الخضار يعيل أربعة أبناء إضافة إلى زوجته غير العاملة، من دخل لا يتجاوز أربعمائة دولار في الشهر، من أين تأتيه البقية.. يناقش الزبائن في مساء يوم رمضاني ولديه الوقت للحديث عن الذكريات.. "فكرت في الهجرة إلى موريتانيا .. ليست لدي فكرة عن البلد لكن يمكن أن يكون العيش هناك أفضل أليس كذلك؟" أكثر من ذلك فالرفيق يعرف عن حب الموريتانيين للرئيس العراقي صدام حسين، عليه رحمة الله.!

لا يسترسل الرفيق أحمد في ذكرياته فهو يريد أن يعرف الكل عن كل مآسي شعبه: " أخي استمع إلي نحن هنا في هذا المخيم من دون ماء ولا كهرباء .. لا نعامل هنا على أننا بشر المخيم كما ترى من دون شوارع أطفالنا يذهبون إلى مدارس بعيدة، الأونروا توفر لهم التدريس والنقل، لكنهم لن يجدوا ما يعملون إذا تخرجوا بل لا يمكن أغلب العوائل الصبر إلى حين تخرج أبنائها لذلك تجد عمالة الأطفال منتشرة هنا بشكل مريع".

عندما تقاطع الرفيق بإجازة قانون عمل اللاجئين الفلسطينيين من قبل البرلمان اللبناني يحرك شفتيه هازئا. لا يوجد شيء. إما أن نعامل كبشر إلى أن نرجع إلى أوطاننا، وإلا فحالنا لم يعد يحتمل.. السلطة الفلسطينينة لا نعرف عنها شيئا .. ولا تعرف عنا شيئا" يشير بيده منهيا الحديث.
مها إحدى زبائن أحمد ترفض التقاط صورة لكنها لا ترفض الحديث عن وضعها الصعب " أنا مستأجرة منزلا بحوالي مائة وخمسين دولارا زوجي يحصل على ثلاثمائة دولار في الشهر.. لدينا أربعة أطفال ومصاريفنا تصل إلى حوالي ألف دولار في الشهر" من أين تدبرون الباقي؟ "أهلي يساعدونني...."

مها وأحمد عينة من سكان المخيم معافاة تقريبا فالمعاناة هنا تبدأ عندما يصاب أحد أفراد العائلة بمرض ما، يروون مئات القصص عن مواطنين أصيبوا بأمراض خبيثة، وآخرين سقطوا جراء حوادث سير أو تهدم منازل أو حرائق.. الفارق بين ما تقبل وكالة غوث اللاجئين دفعه من مجمل تكلفة العلاج، بموجب صك التأمين الصحي، والتكلفة الكاملة للعلاج يحسب بآلاف الدولارات في واحد من أغلى بلدان العالم.

الحفر بين السماء والأرض:

المحظوظ من المتزوجين الجدد من امتلك أهله سطح المنزل الذي يقيمون فيه أو عثر على من يبيعه سطح منزل صالح للبناء؛ فالتمدد مقبول إلى الأعلى فقط. إنهم يحفرون في السماء! مساحة المخيم حددت أبعادها على الأرض عند إنشائه سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف. أما الارتفاع إلى السماء، ورغم كونه مألوفا لشعب الجبارين، فليس متاحا دائما بحكم حجم المخاطر التي يسببها.

وحدها المقبرة هنا بإمكانها التمدد عى الأرض لأن الحفر في السماء غير ممكن في واقع الأموات.. والسكن تحت القبور غير متاح هو الآخر.. الأموات لا يمكن أن يعيشوا بين الأحياء في برج البراجنة.. لذا يسمحون للمقبرة بالتمدد ما دام الموت وحده هو القادر على العيش هنا إلى الأبد .. الموت وحده هنا لا يناضل عن حق العودة لقد رضي هذا الوطن البديل قبل التوطين وسمح له بالعمل من غير قيود..وحده الموت!!

حاولت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين حل مشكل الأسلاك المعلقة بين الأرض والسماء، من خلال مشروع للمياه والكهرباء ممول من طرف الاتحاد الأوروبي، وبدأ الحفر في الأرض لإنجاز المشروع لكن صراعا داخل اللوبيات الاقتصادية في الدولة اللبنانية أوقف المشروع، كما أوقف صراع اقتصادي لبناني آخر دخول مواد البناء إلى المخيم.

الحفر في الأرض هنا ممارسة لا تعرف الحدود يبدأ من حفر الخنادق إعدادا لقتال الإخوة ويمر بحفر القبور لهم لتهال عليهم التراب.. ولا تنتهي عند حفر أخاديد لتصريف مياه الأمطار؛ فالبقعة تعرف الصرف الصحي في اللغة، وانتهى.

هواية الحفر في السماء مهنة يمارسها أحمد صبان من خلال إدارته للمكرز الثقافي العربي الفلسطيني. الرجل الذي ينتمي لتنظيم فتح الانتفاضة (تنظيم منشق عن حركة فتح سنة 1983) ، يقول إن رسالة المركز هي نشر الثقافة الفلسطينية وترسيخها في الأجيال الصاعدة. المركز تأسس سنة 1999 ويضم مكتبة عامة وقاعة أنشطة، وينظم مجموعة من الأنشطة الفصلية، مثل المخيمات الصيفية والندوات، "نأخذ بدلا رمزيا عمن ينظمون حفلات هنا في هذه القاعة، نستخدم تلك المبالغ في تسيير شؤون المركز فلا أحد يقدم لنا أي دعم. حتى التنظيم الذي كان وراء تأسيس المركز لا يدفع لنا أي شيء". لكي تحصل على دعم هنا لا بد أن تكون لك أوراق ترخيص لبنانية وهو ما يستحيل الحصول عليه بالنسبة لمؤسسة فلسطينية".

الثقافة الفلسطينية تعني للصبان والمركز "الفكر المقاوم" وهي ثقافة غير فصائلية "نحن نهتم بالإنسان الفلسطيني في المخيم ونعبر عما هو إنساني في القضية، هذا المساء مثلا نحن بصدد تنظيم إفطار للمسنين في المخيم".

الحرب انقضَت .. وبقيت:

على جدران المخيم ووجوه أجيال من ساكنته ترتسم آثار حرب مدمرة عاشتها كل لبنان وأخذت المخيمات الفلسطينية "نصيب المخيمات" الغالبية هنا يتذكرون سنوات الرصاص لا أحد لم تسلبه الحرب أخا، عما، أبا.، صديقا. المقبرة تعرف هذا، وجدران البيوت تعرف أنها الحرب. هنا اقتتل الفلسطيني والفلسطيني والفلسطيني واللبناني. هنا أطلق الرصاص في كل اتجاه منتصف عقد الثمانينات تقريبا فيما عرف بحرب المخيمات.

حكاية الحرب ليست قصة من الماضي فقط بل ما تزال قائمة في حدق المسلحين المنتشرين في الأزقة، وفي فوهات بنادقهم التي تشعر أنها مصوبة تجاهك أنى توجهت.. تحرس المخيم حتى من عدسات التصوير. لكل الفصائل تقريبا هنا مسلحون بعضها لديه مكاتب عسكرية مفتوحة والآخر يؤثر عدم الإعلان.. لكن لا أحد هنا تخلى عن سلاحه.

العودة لا تفارق..

المفردة الأكثر تكرارا من الجميع هي كلمة العودة يستوي في الحديث عنها الصغير والكبير .. الكل هنا يعتبر وجوده عابرا وكلامه هنا عابرا وحياته هنا عابرة، والكل تقريبا يعلق مشاريع مهمة على إقامته الدائمة في وطنه وبين أهليه، الكل ينتظر اليوم الذي يعبر فيه الحدود جنوبا باتجاه مدينة الجليل من حيث جاء، أو أبوه، أوجده.. ذات مساء نكبة... ما تزال مستمرة.

مخيم برج البراجنه .. عنوان لنكبة لا تنتهي

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox