في ذكراه العاشرة ..جمال ولد الحسن ..صفحات من رحلة الموسوعية(صور) |
الثلاثاء, 17 مايو 2011 11:21 |
لم تكن الفقيهة حاجة بنت ابن عبدم تظن أن خطوات الزمن الحثيثة قد أكملت عشر حجج بعد آخر نظرة وداع ألقتها على جثمان ابنها العبقري جمال ولد محمد عبد الله ولد الحسن قبل أن يوارى الثرى في " البتراء " التي عرفتها وألفتها رباها وسهولها..كانت عشر سنين حقبة طويلة بعد رحيل جمال كافية لنكء جرح الذكرى الحزينة،ولو أن جمال ردد وهو يغادر هذا العالم عبارات مالك بن الريب السائرة: وما كان عهد الرمل عندي وأهـلـه === ذميماً ولا ودعت بالرمـل قـالـيا وبالرمل منا نسوةٌ لو شـهـدنـنـي === بكين وفدين الطـبـيب الـمـداويا فمنهن أمي وابنتـاهـا وخـالـتـي === وباكيةٌ أخرى تـهـيج الـبـواكـيا قصر في حق نفسه،فبواكيه أكثر من أن تحصى أو تعد،تبكي عليه الموسوعية والثقافة الشرعية والأدب الغض الناظر والثقافة المحلية بمختلف اتجاهاتها وتوجهاتها،وتبكي كما يقول – إخوانه – صلوات وتراتيل خافتة في السحر يخشى دائما أن يطلع عليها الناس.
في المسيرة.. ولد المرحوم أحمدُ "جمال" ولد الحسن ، 27 يناير 1959 في اتَّاكِلالَتْ ، على بعد 20 كم من المذرذرة ، وكان والده محمد عبد الله يريد أن يسميه جمالا فاعترض حاكم (المذرذره) الفرنسي ، لأن جمال اسم الرئيس المصري المعادي يومئذ للإنمبريالية الفرنسية ، فسجل الأب اسمه باسم أحمدُ (بضم الدال ) فأصبح الإسم الرسمي أحمدُ ولد الحسن، واسم الشهرة "جمال " ولد الحسن ، انتدب الوالد سفيرا لموريتانيا لدي الجمهورية التونسية بعد الاستقلال ، وذلك في ما بين 64-66، وهناك ابتدأ الطفل "جمال" تعليمه النظامي ، مع بدء السنة الدراسية 64-65 ، بالمدرسة الإبتدائية بحي (نوتر دام) ، في تونس العاصمة ولم يستمر هناك أكثر من سنة واحدة ، فأكمل تعليمه الإبتدائي بمسقط رأسه ، وهناك تعلم القرآن وحفظه كاملا ، وتعلم مبادئ اللغة العربية والدينية. والتحق في بدء السنة الدراسية 1969-1970م بالسنة الأولى الإعدادية ( كبلانى) ب ( روصو) ، ولم يُمض بها غير ثلاثة شهور ، أصيب على أثرها بحمى ملاريا أقعدته عن الدراسة ثلاث سنوات وكادت أن تعصف بمسيرته المعرفية المظفرة ، لولا أنه تدارك الوقت الضائع ، فنجح في امتحان الاعدادية سنة 1973م ، والتحق بشعبة الآداب العصرية العربية مع بدإ السنة الدراسية 1973-1974 ب " الثانوية الوطنية" ، الواقعة قرب مبنى الإذاعة الوطنية ، وفيها حصل على الثانوية العامة 1976م. التحق مع بداية سنة 1976م -1977م بالمدرسة العليا لتكوين أساتذة التعليم الثانوي بتونس العاصمة ، وفيها تخرج سنة 1980م بشهادة الأستاذية ، وحصل في السنة ذاتها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس على شهادة الكفاءة في البحث عن أول بحث أنجزه ، عن " أسلوب محمد بن الطلبة" ، وهو ما خوله حق الإلتحاق بشعبة الدراسات العليا في الكلية ذاتها ( شعبة مناظرة التبريز في اللغة والأدب) التى تجريها الكلية في شهر مايو من كل سنة ، فكان أول الخمسة الفائزين فيها في يونيو 1981 م ، فنال بذلك جائزة الرئيس بورقيبة التى ينالها الفائزون الأوائل في شعبهم، واستلمها من يد الرئيس. وسجل بحثه لنيل دكتوراه الدولة بالكلية ذاتها ، ومع الأستاذ نفسه الذي كان قد سجل معه بحثه للكفاءة ، والتحق في شهر اكتوبر 1981م بالمدرسة العليا لتكوين أساتذة التعليم الثانوي بانواكشوط ليبدأ رحلته المهنية مدرسا بها ، وقد وجه جهوده بها لدفع الطلبة إلى اختيار موضوعات لمذكرات تخرجهم ، تتعلق بالأدب الموريتاني ، وخاصة منه شعر شعراء القرن الثالث عشر الهجري ، المرتبط بموضوع الأطروحة الى يُعد ، فجمع العديد من هؤلاء الطلبة تحت إشرافه عشرات الدواوين الشعرية الموريتانية وحققوها وأخرجوها من المجاميع الأهلية و( الكنانيش) المحظرية ، إلى مكتبة المدرسة العليا ، وإلى متناول أيدي العديد من القراء ، ما كان لها أن تصل إليهم لولا هذه العناية وكان له حضور متميز في الساحة الثفافية والاعلامية بالعاصمة، أعطاه صيتا واسعا يومها في البلد ، كما كان له حضور في العديد من الملتقيات العربية. عاد جمال إلى تونس سنة 1984م في وضعية متدرب منتدب لإكمال أطروحته المذكورة : الشعر الشنقيطي في القرن 13هـ وأكمل إعدادها وسلمها إلى الكلية في بداية صيف 1986م ، وأتم معها أول عمل تحقيق أنجزه وهو تحقيقه لكتاب التكملة في تاريخ إمارتي ( الترارزة ) و ( البراكنة) لمؤلفه الشيخ محمد فال بن باب ت ( 1349هـ-1930م) ، ونشره في السنة ذاتها لدى بيت الحكمة بتونس ، وانتخب في السنة ذاتها أمينا عاما لرابطة الأدباء الموريتانيين ، وحصل بالأطروحة المذكورة في ربيع 1987م على درجة دكتوراه الدولة برتبة الشرف الأولى ، وفي آخر السنة ذاتها انتقل من المدرسة العليا عند انضمامها إلى معهد الأساتذة المساعدين وانتقالها من مقرها القديم ، إلى كلية الآداب وفي بداية السنة التالية 1988م -1989 أنشئت شعبة للترجمة واللغات الأجنبية بالكلية ، فأسندت إليه رئاسة قسم يشرف على هذه الشعبة ، وفي السنة ذاتها أنشئت دورية ( حوليات كلية الآداب) فكان أول رئيس تحرير لها، وأنشئت لجنة التعليم العالى هيئة علمية وحيدة ، كانت تشرف أكاديميا على أ ساتذة التعليم العالي ، فكان عضوا فيها ، كما عين عضوا في اتحاد المؤرخين العرب ، وظل في هذه الوظائف حتى هاجر من البلد 1990م . وفي سنة 1990-1993 اختصاصي برامج بإدارة التربية بالمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – الإيسيسكو – الرباط –المغرب. 1997 – يونيو 1999 مندوب منظمة الإيسيسكو في جزر القمر وفي سنة 1999-2000 التحق مدرسا طبقا لتعاقد شخصي بمعهد الهجرة التابع للمنظمة "بتمبكتو" بمالي وهو معهد مكلف بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها. وفي سبتمبر 2000التحق ب (شبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنلوجيا - مقر العين ) ، على أساس تعاقد شخصي ، ووافاه الأجل ليلة الجمعة مساء الخميس 17/5/2001 .في حادث سير مؤلم بمدخل مدينة (أبو ظبي ) ، وهو يمارس عمله العلمي هناك ، فنقل جثمانه إلى مسقط رأسه حيث ووري الثرى به صبيحة الثلاثاء من الشهر نفسه.
على الصعيد السياسي والإديولوجي كان جمال " إسلامي الفكرة والسلوك معتزا بالحل الإسلامي " على حد تعبير رفيقه الدكتور محمد الحافظ ولد أكاه،بل يذهب نائب رئيس حزب تواصل محمد غلام ولد الحاج الشيخ إلى أن الإسلاميين وجدوا بداية التسعينيات في جمال ولد الحسن الشخصية الإجماعية لرئاسة إطار سياسي إسلامي لم يكتب له النجاح نتيجة مواقف النظام حينئذ. ظل جمال ينافح بقوة عن الحل الإسلامي حيث ظل يردد في نقاشاته السياسية " أما أنا فأ نطلق من سقيفة بني ساعدة". ورغم ذلك فلم يكن المشغل السياسي ولا الإيديولوجي فقد كان الاهتمام العلمي مستوليا على جل اهتمامات الرجل،باحثا ومحققا ودارسا للفقه والمعارف الشرعية. وظل الرجل جمال يحمل روحا شاعرة خفاقة يأسرها الجمال،وتحسن سبك العبارة العذبة ترك ديوانا صغير الحجم كبير المضامين عذب الأساليب والرؤى والعبارات،حيث كان بالفعل أحد قامات الأدب العربي في البلاد فحص الطبيب دمى وقال سليمُ نظر لعمرك فى الدماء سقيمُ لو كان ذا بصر بذاك لرابه داء عظيم فى الضلوع مقيمُ داء يُذل النفس وهى عزيزة ويُمر صفو العيش وهو نعيمُ ويصم أذن المرء بعد تنبه ويكف منه العين فهو يهيمُ ويكل منه الذهن بعد توقد ويضل منه الرشد وهو حليمُ ويسهد الجفن القريح ويقلق الجن ب الجريح فمقعد ومقيمُ ويقيم فى أرض الفؤاد قيامة إن يبدو برق أويهب نسيمُ داء نجاة المرء منه مصيبة عظمى وفوز أن يميت عظيمُ
ولم يكن الأدب الحساني خلوا من إبداعات مميزة للفتى جمال بل كان مجر عواليه ومجرى السوابق ذ المشبوح الِّل ايبات ادوح ....... فسمَ مُلان ليلُ تام وإيظل ايدوح الين اروح ...... بل امنين ابات افلخيام أذيك الثريَّ ذيكيَّ ........ يَيوكًـِ ذيك الثريَّ ذيكيَّ كًطعت عكًبيَّ ...... كًدام المشبوح الكًدام نعرفها بعد امخيزيَّ ...... واتنزل تخمام التخمام أ تعرف بل اديار الحيَّ ...... أ تعرف طرح امنازل لخيام أ لا توصَّ تعرف هي ........ عنْ كافي تبليغ السلام كان جمال قوي الشخصية سريع البديهة،كما كانت أجوبته القارصة تمنحه مهابة بين الأساتذة والطلاب ذات مرة سأله طالب مزعج: ماذا تدرس أيها الأستاذ : فأجاب بهدوء : الأدب.
عشر سنوات بعد رحيل جمال لا شيئ تغير ..لا يزال محبوه وأصدقاؤه وثلة من تلاميذه يتذكرونه بألم ولا تزال المؤسسة التي تحمل اسمه تسعى إلى جمع تراثه وتقريبه من الناس أما السلطات الرسمية فلا تزال تمعن في نسيان الراحل جمال. و رغم ذلك تبقى ذكرى العبقري أحمد جمال ولد الحسن ذكرى عبقة تفرض نفسها كل عام وتهز مجامع الجيل،من كان مستنا فليستن بمن قدمات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتية،وقد كان جمال خير قدوة لمن يريد الجمع بين أصالة راسخة الجذور ومعاصرة امتدت لتجمع الفكر والتاريخ والأدب والنقد والسياسة رحمك الله يا جمال كل القلوب اليوم تردد مع الخليل النحوي: أتتركنا وغصن الود غض وترحل، لا سلام ولا وداعا! على عجل كأن قد شمت برقابأفق المجد يلتمع التماعا كأنك ناهض لأداء فرض فمدرع له الحَيْنَ ادِّراعا أوَ انّك ملتق ضيفا فمُدْنٍ له منك البشاشة والقصاعا أترحل هكذا عنا وتطوي كتابك والصحيفة واليراعا وعلما كم سقيت به ظماء وفهما كم غذوت به جياعا ووجها ضاحكا طلقا بشوشا وكفّاً بَضّة ويدا صَناعا وسمتا في الهدى سمحا سديدا قويما، لا اعوجاج ولا ابتداعا أترحل هكذا عنا وتطوي حديثا لا نمل له استماعا وقولا في بساط الحق فصلا وسعيا صالحا وندى مشاعا وتطويحا بآفاق المعاني وقنصا للشوارد وافتراعا.
|