الثلاثاء, 29 يناير 2013 18:19 |
تتفقد "أمنيانه" بسط القماش الممدودة بين يديها وتعمل على طيها بإحكام قبل أن تودع باقي معداتها من خيوط وإبر في مكان خاص إنها تنهي نوبة عمل امتدت لأزيد من عشر ساعات في تفصيل الخيام الموريتانية التقليدية وحياكتها وعليها الآن أن تبحث عن وسيلة نقل حتى تعود إلى منزلها في أطراف نواكشوط .
أمنانه وغيرها العشرات من العاملات في أكبر تجمع لخياطة الخيام مثال لمعاناة المرأة العاملة في نواكشوط والتي لا زالت أسيرة الماضي في وسائلها لكسب قوتها وقوت عيالها.
وسائل بداية وجهد عضلي مضن أقرب إلى الأعمال الشاقة تكابده هؤلاء النسوة سحابة النهاروجزء من الليل حتى يتمكن من إعالة أسرهن وانتشالهن من براثن البؤس والمرض. لكن الفقر ليس كل ما يؤرق حياة هؤلاء النسوة ويخنق أحلامهن في العيش الكريم وإنما اللامبالاة التي تنظر بها السلطات لمطالبهن في الدعم والمساعدة في توفير موقع مناسب قرب الأسواق الكبرى بنواكشوط لهذه الصناعة التقليدية والتي هي مدينة للفقر في بقائها ورواجها عاما بعد آخر.
مهن الفقر
على المدخل الجنوبي لنواكشوط تتراص الخيام البيضاء في مشهد مهيب يشبه الاحتفالات التقليدية في موريتانيا لكن أمارات الاحتفاء سرعان ما تختفي عندما يسقط نظرك على عشرات النسوة اللاتي يتحلقن في أوضاع خاصة وهن يطرزن القماش ويعددن تفصيل أجزاء الخيام تلك الحرفة التي لا تتطلب كثير مهارة بقدر ما تحتاج إلى الصبر وقوة التحمل.ومع ذلك فهي حرفة نسوية في موريتانيا لا مكان للرجال فيها في مقابل مهن أخرى للرجل يغذيها الفقر كحرفة بيع "علب الكارتون ".
وتكشف آخر الاحصائيات أن نسبة الفقر في موريتانيا تتعدى 42 % من مجموع السكان وأغلب ضحاياها هن من النساء.
تقول أمنانه بنت عبد الرحمن إن التوسع في ورش الخياطة لا يعني رواج الحرفة ولا ارتفاع مداخيلها بقدر ما يعني تدهور الظروف المعيشية للأسرة الموريتانية والتي لم يعد لديها ما تبكي عليه بعدما نزلت الأمهات إلى ميدان العمل وأصبحن يزاحمن الرجال في الأسواق "كبائعات للسمك " أو عاملات في مختلف الحرف اليدوية لكن تبقى خياطة الخيام حرفة النساء الأولى في موريتانيا .
"الخيامات " يحملن السلطات جانبا من الأزمة التي تعيشها صناعة الخيام في معظم أشهر العام كما تقول بنت عبد الرحمن حيث عمدت السلطات إلى ترحيلهن إلى هذا المكان النائي في مقاطعة الرياض والذي تحف به النفايات والجيف ولا يجد فيه العاملات أبسط الخدمات الأساسية ولولا بقية من تكافل بينهن لكانت ظروفهن أكثر خصاصة.
عزلة وسرقات
عزلة معرض "الخيامات " بالرياض جعلت خيامهن عرضة للسرقات رغم تعاملهن مع حارس ليلي لكن غياب الإنارة واتساع مساحة المعرض والطريقة البدائية في التعامل مع الخيام كلها ساهمت في تفاقم هذا المشكل الذي يكلف النسوة غلة أيام عديدة من العرق والتركيز.
لذا يعتبرن قرار الترحيل نوعا من التخلص من النسوة ورميهن إلى المجهول مما حدا بهن إلى الشكاوى للرئاسة والبلدية لكن دون جدوى تقول أمنانه.
كان الليل قد أرخى سدوله على المكان ليبدو موحشا تتراءى في جنباته أشباح خيام خاوية تتكدس في جنباتها بسط القماش ومعدات الخياطة والخيام الجاهزة للبيع.
الكل في مكان واحد الحياكة والعرض وفي المتوسط تحتاج الخيمة الواحدة إلى ثلاثة أيام من العمل المتواصل حيث تتوزع النسوة بين الخياطة وفتل الحبال وتطريز زخارف القماش التي تزين الخيمة من الخارج ويطلق عليها "القلائد ".
غلاء المواد الخام
شكوى "الخيامات" ليست فقط من عزلة المكان ولا غياب الدعم فحسب بل أيضا من ارتفاع أسعار المواد الخام المستخدمة في تفصيل الخيام التقليدية بما فيها بسط القماش حيث تتفاوت الخيام في الحجم وطبقات القماش المعدة منه، كما يطرح تدني جودة الأبر وسهولة كسرها وضعف الخيوط والحبال تحديا آخر أمام الارتقاء بهذه الحرفة ومن ثم تحسين دخول العاملات فيها.
لذا تطالب "الخيامات" بالاستفادة من قروض المشروعات الصغيرة، وبالتكوين على أعمال الحياكة من خلال الماكنات اليدوية مما يرشد الوقت والجهد كما تقترح زينب بنت عبد الرحمن.
رمزية تحتضر
الخيام التقليدية ليست حرفة يدوية فحسب بل إن عالم "الخيامات" المترع بالألم والمعاناة يحمل مواضعات اجتماعية لا تزال محل احتفاء من "الخيامات" كمصطلح "اتويزه " الذي يحمل بعدا تضامنيا وعملا جماعيا لا غنى عنه في مثل هذه الحرف وقد تلقف أحد مشاريع إعمار الأحياء المرحلة هذا الاسم وقدم خدمات هامة لسكانها من الفقراء قبل أن يدركه الافلاس والعجز.
كما يظل البعد الاجتماعي ل"لتويزه" وما ترمز له من مكانة للمرأة في المجتمع الموريتاني حيث توفر جلسات "اتوزيزه" فضاء للقيل والقال ونشر الشائعات ومتنفسا للخوض في كل الآراء والموضوعات وهو ما يبدو أنه قد فقد بعض ألقه في عالم المدينة وفي ظل وجود وسائل الاعلام الحديثة، ولولا ذلك لكانت "صناعة الخيام " حرفة شاقة وعملا عضليا لا يختلف في شيئ عن دباغة الجلود وصناعة الحصائر والسجاد اليدوي.
|