الثلاثاء, 23 أبريل 2013 17:46 |
محفوظ بن أحمدهل كانت مدينة انواكشوط بحاجة الى كبة جديدة؟
لقد حصلت عليها، على أي حال. إنها كبة هائلة تسمى أحياء الترحيل. وهذه التسمية ليست من وضع الدولة، ولا تروق لها؛ ليس لأن النظام وأنصاره يكرهون لفظ "الرحيل" ومشتقاته، ولكن لأن من بين "فلاسفة" حزب الدولة من كان بودهم أن يستفيد النظام من أسماء هذه الأحياء، كما استفادوا هم من معانيها ومغانيها! فربما كانوا يفضلون أن تسمى مثلا "أحياء الأمل" على وزن برنامج الأمل، او أن تشيع لها أسماء أقرب من ذلك مثل العزيزية، أو أسماء خيالية مثل أحياء القرن الواحد والعشرين، أو أحياء تشعشيع..!
وفي المقابل كان واضحا أن اقتراح البعض تسميتها "أحياء الفقراء"، نسبة لرئيس الفقراء، ينطوي على محظور خبيث يسميه البظان "الأعظام".. حيث يختلف مفهوم الفقر هنا عن مفهوم فقر الرئيس. فإذا أضفنا هذه الأحياء للفقر فإننا نصيب عين الحقيقة بينما نبتعد من الحقيقة حين نضيف الفقر للسيد الرئيس.
في الغالب تسمى الأحياء الشعبية في انواكشوط، بأسماء المدن والقرى التي تتعرض لأسوأ الكوارث والحروب، أي التي يعاني سكانها أبشع القتل والدمار.. فلدينا: الزعتر، والفلوجة، وقندهار، والمغيطي... الخ.
قد يظن البعض أن هذه تسميات من وحي الإعلام ونشرات الأخبار العالمية.. لكن الحقيقة أن هذه الأسماء ما هي إلا بيانات احتجاج ورسوم كاريكاتير ساخرة من الأنظمة القائمة التي يساوي المواطنون في هذه الأحياء بين نتائج سياساتها عليهم وحال سكان تلك البلاد النائية التي تحتل مآسيها عناوين الأخبار لفترات طويلة.. وإن كان الأمر لا يخلو بطبيعة الحال من مشاركة أولئك المنكوبين والتضامن معهم.
من الكبة إلى الكزرة
على مدى أربعة عقود، أي منذ تفاقم كارثة الجفاف سنة 1970، ظهرت الأحياء العشوائية حول مدينة انواكشوط بشكل محدود ما فتئت السلطات حينها أن واجهته بمسئولية وعناية تمثلت في إحصاء المعنيين بدقة، وتخطيط وإعداد ما سمي وقتها المقاطعات الأولى والخامسة والسادسة وتجهيزها بالماء والكهرباء والمدارس والمستوصفات ومفوضيات الشرطة.. قبل ترحيل الناس إليها وإنزالهم في قِطَعهم المرسومة بعلامات واضحة.
بعد ذلك مباشرة تفاقمت الهجرة إلى العاصمة وأدى الجشع بالبعض إلى المتاجرة بالقِطع الأرضية مستغلين فاقة سكان الأحياء الجديدة.. فتولدت كبات جديدة تفوق سابقاتها.
وفي ظل الديماغوجية والفساد اللذين انتشرا وتفاحشا مع تتابع وتصارع الأنظمة العسكرية في السلطة.. تطورت الكبات إلى ظاهرة "الكزرة" الخطيرة التي تنافي بشكل صارخ كل مظاهر ومفاهيم القانون والنظام العام.
وكأي ظاهرة شاذة تخرج على الشرعية، جمعت الكزرة كل أصناف الجشع والفساد، فجذبت الجميع واجتمع عليها المسؤولون في كافة مرافق الدولة: الوزراء والولاة والحكام وكبار الضباط، والسماسرة، والفقراء المشردون، والأثرياء المترفون..
ولكم أن تتصوروا حال ومصير دولة تجتمع من قمة هرمها السياسي والعسكري إلى ادنى قاعدتها على شأنٍ واحد هو الكزرة، وهي الاستيلاء على مال الغير بالقوة!!
ولا عجب بعد ذلك أن ترى هذه المدينة على حالها اليوم وقد تحولت أطرافها وأحياؤها الشعبية والراقية إلى أورام سرطانية من الخرسانة العشوائية والأزقة المسدودة.. لا توجد بها منافذ ولا أسواق ولا ساحات عمومية ولا شوارع سالكة.. وسلام على المساحات والفضاءات والحدائق..
الخديعة الكبرى
هذه الفوضى الهدامة أخفت بين معاركها المحتدمة الحالة الأصلية المعروفة بالكبات وهي حالة مواطنين فقراء يسكنون مضطرين علب الصفيح والأعرشة (البركة ولمبارات) لأنهم لا يملكون غير ذلك. فقد ضاع هؤلاء وتوزعوا بين الكبة والكزرة، ولكنهم ظلوا دوما "الحائط القصير" لأصحاب الحيطان والمباني المرتفعة: يُهجَّرون ويُساومَون ويُخدعون.. ليتركوا أماكنهم التي يتصرف فيها السماسرة بتوجيه وتمالئ وتنفيذ السلطات الإدارية والفنية المشرفة على هذه العمليات المعقدة.
وحين ظهر النظام الحالي اختار رئيسه من ضمن الشعارات الانتخابية الجذابة شعار حل هذه المشكلة، فكانت زياراته الاستعراضية الشهيرة للحي الساكن وكبة المربط.. وهي بؤر الحاجة للمعيشة والسكن.
لكن الرئيس كانت عينه على الكزرة أيضا، فهي تشكل في جانب منها حالة فقر للسكن والحياة، وفي جانب آخر مرتعاً للتجار والتبتابة والمسئولين المنضوين تحت لواء حزبه و"أغلبيته" السياسية.
ولم يفت الرئيس في بداية حماسه ذاك أن يضرب على الوتر الحساس وهو تفادي أخطاء الأنظمة السابقة في محاولاتها لحل هذا المشكل، حلا لم يكن في الواقع سوى زحزحة الساكنة الفقراء للاستيلاء على أماكنهم الهامة. فأكد أن ذلك لن يتكرر وأنهم سيُمنحون نفس المكان الذي يحتلونه.
ولكن النتيجة اليوم لا تطابق ذلك الوعد تماما..
النتيجة هي ذاتها: أحياء صفيح ممتدة عبر الكثبان والرمال وأكوام القمامة، نصفها مهجور ونصفها كبات يعاني سكانها نفس البؤس، مضاف إليه البُعد من المدينة ومرافق الحياة، وغلاء أسعار الغذاء والماء، وانعدام الأمن، وغياب وسائل النقل، والعزلة حيث أن أكثر السكان لا يصلهم طريق مباشر..
الطرق القليلة المعبدة أو شبه المعبدة تخترق هذه الأحياء من أماكن متباعدة.. وقد استثنت الدولة لمسئوليها أو سماسرتهم الأماكن القريبة من تلك الطرق ولم تمنحها للمواطنين العاديين.
لقد أبدلوا كباتهم القريبة من المدينة بكبات في المنفى!.
مع ذلك هل حلت مشكلة الأحياء العشوائية واختفت الكبات والكزرات.. كما يقول المكابرون من أنصار النظام وشياطينه؟
الصحيح أن المشكلة قد زيد فيها، ليس لأن النظام لا يرغب في حلها ولا يبذل قصارى جهده المحدود لذلك.. ولكن ببساطة لأنه لا يوجد حل منظور لهذه المشكلة، وإذا كان هناك من حل لها في قابل الأيام فليس من هذا الباب.. بل سيكون فقط من باب آخر هو علاج أصل المشكلة وأساسها: الفقر، والفساد.
الأحياء العشوائية وأحياء الصفيح ليست ماركة موريتانية مثل الكزرة؛ التي أصبحت مفخرة رسمية. ففي دول صاعدة توجد أكبر أحياء الصفيح.. من ساو باولو في البرازيل غربا إلى جاكرتا بإندنوسيا وبانكوك بتايلاند شرقا.. وهي بلدان قطعت أشواطا بعيدة في التنمية والتقدم كانت في نفس الوقت أشواطا كبيرة في القضاء على تلك الأحياء.. ليس بترحيلها، بل بترحيل من سكنوها من حال الفقر والحرمان إلى حال الكسب والقدرة على بناء وتأثيث المسكن اللائق.
إن النتائج التي خلقها تعامل الدولة الانتهازي الاستعراضي مع هذه المشكلة لم يزد في انتشارها وتعقيدها فحسب، وإنما كان كارثة حقيقية، حيث ديس القانون وأهينت الدولة وانتُهكت الملكية العامة وتحولت ظاهرة "الكزرة" من معرة وجريمة إلى ثقافة وطنية تتربى عليها الأجيال وتطبقها في شتى نواحي الحياة.. بل أصبحت الكزرة، بفعل الإدارة وضعفها وتخبطها، فتنة جاهلية تسيل فيها الدماء وتجرد السيوف كأيام داحس والغبراء!!.
ولهذا فإن الحلول المجربة والمطبقة حتى الآن هي ضرب من العبث. فمنح قطعة أرضية في مكان قفر لأسرة فقيرة لا تجد قوت يومها وبالكاد تستطيع تجميع أجزاء عريشها المنهار في المكان الجديد، لا يؤدي إلا إلى تمدد المدينة بشكل عشوائي يضاعف عذاب هؤلاء الفقراء. وحين تكون هذه القطع الأرضية ذات قيمة سوف يبيعها أصحابها بأبخس الأثمان، ليس لأنهم لا يحتاجونها، ولكن لأن ثمنها الزهيد ينفعهم في الحال الضيق، ولا يوجد ما يربطهم بها سوى متاع قليل يرحلون به إلى مكان جديد.. يأتي رئيس آخر يوما ليمنَّ عليهم بنقلهم منه إلى بقعة أخرى تكون كبة جديدة.. وهكذا تدور دائرة العبث...
ومع الأسف فإن الأنظمة الحاكمة تدرك هذه الحقيقة ولكنها تقفز فوقها من نفس المنظار: وهو العجز والاستسلام واستغلال الوضع القائم في الديماغوجيا السياسية وشراء الذمم.
والحقيقة المؤسفة أن الدولة أصبحت اليوم عاجزة عن حل هذه المعضلة لأنها باتت جزءا منها، ضالعة في تغذيتها عبر عمليات البيع والمَنح والتشريع الهائلة التي تمارسها على مستوى كافة سلمها الإداري من أعلاه إلى أسفله.
وبينما يؤكد رئيس الجمهورية ووزير الداخلية علنا أن لكل أسرة الحق في قطعة أرض واحدة فقط، ينظر المواطنون إلى مئات الأسوار المحيطة بعشرات القطع الأرضية الممنوحة لنفس الأشخاص، ويرون الساحات والأسواق والشوارع العامة مشرَّعة لأشخاص استولوا عليها بالتحايل والتزوير والرشوة.. ثم تتداول وسائل الإعلام بالأسماء والأرقام الاقتطاعات العقارية الهائلة في أرقى الأحياء التي يمنحها قادة الدولة أنفسهم لأنفسهم وأولادهم الرضع وأصهارهم والمصفقين لهم والمصفقات!.
فمن الذي يستطيع لوم الصبيان على الرقص إذن؟!
الحل الأخير
ويبدو الحل الممكن الآن قاسيا يحتاج لنظام وإدارة غائبين. وهذا الحل هو أحد خيارين لا ثالث لهما: أحدهما قرار سياسي صارم بهدم وتدمير كل الكزرات والتوسعات (مهما كان حجمها وعمرانها) التي تطال المجال العام كالشوارع والساحات والأماكن العامة، والقبض على كل مسؤول يوجد توقيعه على أي وثيقة تمنح أو تشرع تلك الكزرات والتوسعات، سواء كان مديرا أو حاكما أو واليا أو وزيرا.. وجرهم للمحاكمة والحساب العسير.
أما الخيار الآخر فهو أن تبحث الدولة، بعد العزم على إصلاح إدارتها، عن أي مكان آخر من هذه البلاد الواسعة لتبني فيه عاصمة جديدة للدولة تنقل إليه كافة المؤسسات والمرافق العامة.. وتترك هذه المدينة المنتهَكه لعاديات الرياح وأمواج البحر!!.
|