ذكرى بلال /السراج – خاص
الاثنين, 20 سبتمبر 2010 09:53

بلال ذكرى مؤلمةبلال ذكرى مؤلمةلم يكن الخبر محزنا للوهلة الأولى...فقد كنت أؤمن بالحكمة السنغالية التي تقول إن الناس جميعا سيموتون ولكن ’’الكهل سيموت قطعا’’ فقد كنت أردد كلما رأيت مكلومين يبكون على شيخ مسن غادر الدنيا ’’أو كانوا يطمعون له بالخلود> ’’
وماذا تتنظر سيدة جاوزت التسعين إلا زائر الموت ومنادي القبر.

ورغم ذلك انتزع مني الخبر ساعة من وجوم ولحظة من حكمة رددت فيها أنا لله وأنا إليه راجعون،ثم تصنعت الحكمة ورددت بعض العبارات المعهودة التي نرددها ونحن نشيع الغادين ونودع الرائحين إلى قبورهم ونعود منهم سكارى بخمرة أيامنا سريعة الانقضاء.

وما كانت تلك الأحدوثة الناعية لتتميز عن سابقاتها مما وقر به السمع من أخبار الموتى وقصص السفر الحثيث إلى الآخرة لولا أن شيخة من لداتها حدثني أن ’’المرحومة’’أخذتها أحوال من الحزن قبل وفاتها بأيام وأخذت تتفحص وجوه العواد وقسمات الزائرين،ثم تغمغم بكلمات حزينة،متباعدة كأنما تخرج من سم إبرة،ثم يسمع

المتصنت بعد لأي اسم ’’بلال يتردد’’ ثم يأخذها حال من البكاء،والنشيج الجريح.
ثم تعود تتفحص القادمين وتسأل هل جاء بلال،ولم يزل السؤال الكليم عن بلال والدمع السخين إثر بلال يلحان على المرحومة حتى أسلمت الروح إلى بارئها،فخرجت مثقلة بأحزانها وآلامها وذكرى بلال،متخففة من أعباء الدنيا فلا مال سيتنازع عليه الأبناء،إذ لا أبناء ولا أحفاد إلا بلال ...تلك الذكرى الباكية والسؤال الحزين.
عرفتها منذ أكثر من عشرين سنة في حي بسيط من أحياء العاصمة نواكشوط ،أما هي فقد عرفت الحياة تسعين سنة، أو تزيد جالت بها في الترارزة القديمة،حيث كان تمتد المراعي من أفياء المحيط قرب نواكشوط،متجهة جنوبا،لتقطع عرض ’’برويت ’’ كله،جائلة بين وهاده وكثبانه،وبين أحيائه ونزاله،لتصل إلى ’’لخشوم’’ جنوبا،قبل أن تنحرف شرقا وشمالا باتجاه الخط وروابي إكيدي.
عرفت تلك الأرض كما تعرف أصابعها التي نحتتها السنين والأيام،عرفت الرمل وجيرته،والبحر وأصدافه،والإنسان وقبيله وحلفه،وكانت شريطا متصل الأسانيد،لايحفظ متون الفقه ولا اللغة ولا الشعر،ولكن طبعت الأيام على صفحاته كثيرا من قصص الإنسان التروزي،وصراعه من أجل الحياة،وعلى هوامش ذلك الصراع سجلت المرحومة طررا متواصلة من الحكم الساذجة،كانت مسجلة مرقونة لأحلام وآمال الرعاة،وهواجس البائسين الذين يعيشون الحياة بشرف رغم صعوبتها وحرصها على أن تمد لهم بيد عسراء حبالا من المصائب كان أقساها ما كان على شكل ’’ذكرى بلال’’
بين تلك الأر       ض وذلك البشر عاشت سنوات كثيرة،يوم كان ’’ النصارى’’ يحكمون البلاد،ورغم ذلك لم تكن تنسى ذكريات جميلة سمحت لها بنقر الطبل مرات أمام الأمير محمد فال ولد عمير،والأمير حبيب ولد أحمد سالم ولد ابراهيم السالم،وفوق ذلك لم تكن تنسى زغاريد أطلقتها كأجنحة العصافير الحالمة ابتهاجا بمقدم الشيخ أحمدو ولد فتى أو أحد أبناء لمرابط ولد متالي،وغيرهم ممن تذكرهم فتتعجب كيف اتسعت رئتا الزمن لكل هؤلاء الأقطاب والأعلام.
عاشت سنين عديدة،وجاء الاستقلال’’ والنجمة والهلال’’ وتوالت الأيام،تنمحي حقبة من شريط الذكريات وتغرس الأخرى حروفها بقوة،تذكر يوم سحت الدمع السخين يوم استقبلت الترارزة جثمان أميرها المهاجر محمد فال ولد عمير،ثم أسلمته إلى قبر كريم في رحاب ،،تندكسم’’ حيث كان المختار ولد هدار يود  يرغب أن يقيم زمنا حتى يقرأ ’’ معالي الأمور،ومكارم الأخلاق’’
رددت بتوحيد وإيمان ساذج أن زمنا لا يعتني بعد أيام بن عمير غير جدير بالاهتمام وأن ظهر الأرض وهو يحتوي جسد بن عمير خير من ظاهرها الذي يروي كثيرا من مآثره الحسان.
وتوالت حلقات الزمان وإذا ’’ المرحومة’’ تخطو بتودءة إلى عقدها السابع بجسد مالت شمسه إلى الغروب راسمة على محياه ألوان المغيب النبيل،فقد كانت رغم السنين والأحوال ’’كهله من ذوك الكهلات’’ يصدق عليهن الوصف العربي القديم ’’كهله شهلة’’،كانت ضحكتها المجلجة،وهي تستعد للوقوف من جلساته وتردد باسمة’’ وتركوك قائما’’ تترك رنينا غريبا في مسامعنا ونحن أطفال، وإن بدا أن حلقتها الأخيرة والصوت يختفي في ظلال الفرح تنتهي إلى نشيج مبحوح.
وأخيرا يكتب العمر الذي يستعد لأذكار المغيب، والجفاف الصارخ الذي يعصف بالزرع والضرع على ’’المرحومة’’ أن تسكن نواكشوط،في أحد أحيائه الصغيرة،تسكن بين عدد من بنات وأبناء أخيها،لم يعد لهم والد سواها كما لم يعد لها ابن سواهم،فقد استطاعت أيدي السنين أن تكسو ’’ذكرى بلال’’ غلالة رقيقة من الصبر والتناسي،تشف عن الجرح الغائر وتمنح الذكرى النبيلة أجنحة من الألم الجميل.
ولك أن تسأل الآن - وقد أطلت عليك من ذكر المرحومة – عن ذكرى بلال،ومن بلال،وما لهذا الجرح النبيل والألم الجميل،ولي أن أجيب أن ’’ كوكة بنت ....’’ - التي لا تذكر من تاريخ ميلادها سوى أنها اكبر بأكثر من عشرين سنة من ابنها بلال الذي ولد ’’عام النيسان ’’ أي قبل 74 سنة من كتابة هذه السطور،-  ’’رحلت’’ بها إحدى بنات سيدها الأول إلى أصهارها الجدد في بادية الخط ولم تمض أشهر كثيرة حتى زفت كوكه  إلى أحد العبيد من ذات المخيم،فأنجبا طفلا وسميا سمياه بلالا .ونشأ بلال كما ينشأ أبناء العبيد والإماء في حيه، يرفرف بكل أجنحة البراءة وكل صور البؤس والمأساة،ولن يكون أسهلها الرق الذي سيكتب قصة فراق لانهاية له بين بلال وأبويه،وفي ظل تلك الظروف انتقلت كوكه إلى سيد جلف في نفس الحي،ولم يكن في الأمر كبير غرابة لا على الأمة ولا السيد،ففي عالم الصحراء تتسع التجارة لكل شيئ..للإنسان والقيم والأرض.
وتقول كوكه – كما حدثني الشيخة التي نقلت إلي نعي المرحومة- قطعنا عرض البحر واجتزنا ضفة القوارب الجنوبية باتجاه السنغال ذات صيف حار،كنت مع أسرة،ومكثنا عدة أشهر مع أسرة من أقارب ’’ عربي’’ قبل أن نعود إلى الخط من جديد،وهنالك كنت على موعد مع خبر غير سار ولا مبشر.
العبيدالعبيدلم يكن بلال من بين أطفال العبيد الذين هرعوا إلى استقبالي والرفقة العائدة،وظل الأسى يبتلع سؤالي المتردد أين بلال قبل أن أجد الإجابة الصاعقة عند ’’ عربيه’’ الذي قال إن ’’ توجاط’’ قتلت بلال.
وتضيف كوكة ’’بكيت كأحر ما يكون البكاء وأشد ما يكون الألم والشوق إلى طفلي الوحيد ومادت بي الأرض حتى لو انفتحت لي ما ترددت في الولوج إلى بطنها الذي يضم بين أصداء القبور جثمان بلال،ثم قطعت يد التصبر حبل الألم الطويل،وجفت المدامع،وتذكرت أن الموت طريق كل حي وأنا جميعا ميتون،ولن أكون أول فتاة فقدت وحيدها ولا أول طفل غادر والديها،وتذكرت ما أخبرت من قبل أن أطفال المسلمين يعيشون في ربض من الجنة مع سيدنا ابراهيم عليه السلام وهم ينتظرون القيامة ليأخذوا بأيدي آبائهم ويدخلوهم الجنة،فهون هذا الأمل ذلك الألم وإن لم يمحوه بتاتا.
ورغم ذلك لم يبرح طيفه الوديع ناظري فلقد كنت أراه في قسمات كل لداته بيضا وسودا،أراه يخرج من بين الأشجار وينساب مع زقزقة العصافير وأنسام السحر،وتذكرني كل ضحكة بريئة برنين ضحكاته الساحرة،وتنكأ كل دمعة يذرفها صبي جرحه الغائر في فؤادي.
أحببت من أجله كل الأطفال،كل الصغار من الشجر والإنسان والطير والدواب،وكنت أشبه كل طفل جميل ببلال.
وتواصل الحزن النبيل يزرع لي عمرا جديدا تتشابك فيه الذكرى والشوق والصبر والألم،لولا أن حرطانية سليطة اللسان قالت لي ذات مرة غاضبة - وأنا أستعيد على صويحباتي مشهدا باسما من ذكريات بلال وأدعو له بالرحمة – على من تترحمين،إن بلال لم يمت ولكن ’’ عربيك ’’ باعه ضحى بأوقيات بيض لرفقة من أهل الساحل فأردفوه على حمرهم،وساروا به لتبتلعه التلال ويتوارى خلف المغيب.
ولا يجد الحزين أشد عليه من نكء الجرح،ولا المريض من السقم بعد الإبلال،وتفيق كوكة من صرعة الخبر الصاعق،فإذا الألم لا يدع فسحة للصبر وإذا رقعة الشكوى تملأ كل رحاب الفؤاد الجريح،وإذا العمر خريطة للأحزان ودفتر مسطور من دفاتر الثكل العنيد.
وتصارح كوكه ’’عربيها ’’ متسائلة بجرأة المكلوم وفصاحة الحزن العاري ..لم كذبت علي؟
فلايرق لألمها ولا يبصر دمعاتها المتلاحقة كحبات سبحة من العقيق،وإنما يغضب لجرأتها عليه،فيلبسها أردية حمراء من آثار السياط،ويشنف مسامعها بحلي من السباب الخبيث.
وتمر أيام وليال ..وكوكة لاتطيق النظر إلى وجه سيدها بائع الأطفال،وتجد الفرصة سانحة عندما يزور سيدها الأول ابنته التي رحلت بكوكه قبل سنوات،فتتعلق به الأمة الثكلى،ترجو أن تعود إلى ملكه القديم،وتناشده فيرق لها قلب السيد الأول ويشتريها على مضض،لتعيش معه في حيه غير بعيد من ’’مخيم المأساة’’ الذي كانت فيه،سنوات،يغادر فيها السيد الأول عالم البشر،وتعيش كوكه مع بنات سيدها أختا لهم من نوع الإماء،يرعين شأنها ولا يكلفونها من العمل إلا ما تطيق.
وتمضي الأيام وجرح بلال عصي على الاندمال ..غير أن سلطان الأيام أسرع إلى مسح الدمع،وإطفاء جمرة الحزن،ويمضي الزمن سريعا يراكم عشرات السنين،ويأتي رسول القبر فيخطف أبا بلال،وتبقى ’’كوكة ’’ صامدة كأنما نحتت من حجارة وحديد،وإن ملأت حزنا لاينقضي ودمعا لايغيض فكأنها والدمع جريان الماء الزلال من عيون الصخر الأصم.
وتتوالى السنين،وتضعف كوكه عن الحركة،حتى ما تستطيع الصلاة إلا جالسة وتخفت شعلة البصر الحديد،حتى ما تميز قسمات الأهل المساكنين وتوقر الأيام السمع حتى يحتاج إلى ترجمان.
ثم تلح عليها حمى عارضة،فيراها الطبيب ولا يأمر لها بدواء كبير،ثم يسر إلى كبير أبناء أختيها أن شمسها تستعد للغروب.
وهنا تعود ذكرى بلال تلح كأجنحة الحلم تلوح كلمع البارق المتوثب،وأسراب الذكريات تقتات من بقية الروح التي تتردد في جسم صهرته الأيام والنكبات.
ويجتمع الأهل،يحبسون مجاري الدمع،ويغالبون غصص الألم العنيد،وتتحسس كوكه ’’أيدي العواد’’ وتغمغم بحروف مثقلة ...بلال ..هل جاء بلال ..’’ ثم تدلف إلى سكرة طويلة حتى يردد السرعان ورقاق القلوب ’’ إنا لله وإنا إليه راجعون ،لقد غادرت عالمنا’’ ثم تفيق ’’ فتردد بحروفها الجريحة ’’أريد بلال’’...ولم تزل كذلك حتى خرجت الروح من الجسد وتوقف عداد الأيام عن الدوران عند تسعين أو تزيد من السنين والأعوام.
وحمل الناس الجسد الضئيل،إلى مثواه،بعد أن غسلوه من أدران الدنيا ولفوه في غلالة بيضاء،ثم ردوا عليها طرفا من رداء منسوج من الرمل،ووقف كهل من أبناء أخوتها يردد بصبر جريح ’’ اذكري ما خرجت به من هذه الدنيا من أنك تشهدين أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .............))
وعاد الناس إلى أهليهم،فتبادلوا التعازي والكلمات الكبيرة،ثم عادت مياة الحياة إلى مجاريها،أما أنا فلا يزال ’’سؤال أين بلال يرن في أذني صداه اللاهب،لأردد أين بلال.
وأين بلال الآن،إن يكن حيا فكيف لشيخ يخطو في الرابعة والسبعين من عمره أن يجيب على هذا السؤال الحزين وإن تكن غالته الأيام وغادرت به عالم الغبن والظلم الأرضي،فليس أول طفل بخلت عليه عدالة السادة والكبراء بحضن أمه وأبيه.
لكن سؤالي الكبير...كم من بلال ..وأم بلال ...يعيشون بين ظهرانينا، وهم يحملون ذات الألم النبيل الذي حملته كوكه أكثر من سبعين سنة.
برأيي المتواضع فليس بلال إلا صورة واحدة من ’’ مجلد الصور المأساوية’’ التي تملأ جهازنا الاجتماعي الرديئ

ذكرى بلال /السراج – خاص

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox