عبد الله ..أجنحة الألم |
السبت, 25 سبتمبر 2010 17:46 |
كان غنيا فافتقر وقلت ذات يده،لتمتد تارة بالسؤال الكريم العفيف وتارة لاستقبال أعطيات المشفقين والمحسنين،كان شابا جلدا قويا فانتهى به المطاف عظاما بالية وبقية شيخ محدودب،يحمل الزمن كلا على ظهره،والأرض حملا لا تعبئ بأحزانه. عضه الدهر بنابه وقضمته أضراس الحياة،فتركته بقية إنسان تتراماه ضفاف الجراح وتتلقفه أودية الأسى،يزعم أن الموت أرحم مما هو فيه،ولا يزال الموت يمنح الحياة فرصة كثيرة لتأديبه على ’’هجران أم حنون’’ لم تشأ الأقدار أن تعفي ( عبد الله) من تذوق الكأس المرة التي جرعها أمه،وأن يلف كبده الجريج على ذات الجمرات التي كوى بها قلب أمه قبل أكثر من خمسين سنة ...لا لشيئ إلا أنها رضيت بزوج كتبت له ’’ تابوهات المجتمع ’’ أن يقبع في درك سافل من سلم من المجتمع الشنقيطي العظيم. ولم يجد الطفل الذي يزم بأنفه الشامخ انتسابا إلى أرومة طيبة ومحتد أصيل بدا من مواجهة أمه بلغة رجولية قاسية ’’ إذا أدخلت إلى أسرتنا ذلك الزناكي فسأترك لك الدنيا’’ ولم تكن الأم تظن أن سورة الغضب الطفولية ستتحول إلى قرار فاعل وأن وحيدها سيخرج من تلال مكطع لحجار التي عرفته وعرفها وأجشهت له ربوعها كما أجهش قيس بن الملوح للتوباد،حين رآه،خرج مغاضبا أمه،بعد أن داست شرف الأسرة العريقة بذلك الزوج القابع في درك أسفل. يمم شطر إفريقيا،قبلة النازح وكعبة الباحث عن مال وفير أو مستقبل زاهر،ولئن شغله ما شغل الناس من السعي في مناكب الأرض بحثا عن رزق مطلوب،فقد كان همه الأول أن يعيش في أرض لا يتحدث أهلها أن ’’أم عبد الله زوج لرجل وضيع النسب’’ كان الأمر بالنسبة له عارا كبيرا،ولم تكن عشرون سنة أو تزيد كفيلة بغسله من نفس شاب يمور وجدانه بقيم الشكيمة والأصالة والحسب المجيد. يمم إفريقيا الكبيرة،وتلقفته مدن وقرى إفريقيا الغربية،قبل أن تحتضنه شوارع ليبيريا،يموج بين آلاف الأسماء الموريتانية التي تبحث عن الماس أو ’’ الحجر’’ ..عاش زمنا طويلا يعود أياما بخفي حنين،ويجد في يوم أو يومين غنية إلى حين،فلم يكن مؤشر الأرزاق إلا خطا متموجا كحياة الإنسان. عشرون سنة أو تزيد جعلته منه إفريقي اللسان والهوى،ليجد نفسه بعد حين رب أسرة،وأبا لبنت وصهرا لأسرة إفريقية...وتتواصل الحياة،ويظل طيف أمه الحنون يلح عليه،وضميره ’’الشهم’’ يخزه بين الحين والآخر. بين الفينة والأخرى،كان يتحسس أخبار ’’مكطع لحجار’’ يسأل عن أمه وأقاربه،دون أن تدفعه شيئ من ذلك إلى كسر ’’صنم الهجران’’ البغيض الذي يحول بينه وبين أمه،فلايزال شيطان الغضب البائس يضخم في عينه ’’جرم أمه ’’ يوم تزوجت رجلا وضيع النسب. ثم جاء خبر سيئ،عن سقوط أمه نهبا لمرض فتاك ...فكانت الصدمة أكبر من شكيمة الإصرار العنيد،وتهاوت حلقة أو حلقتان من كبريائه الهزيل،ولاحت له بارقة للتوبة والأوبة إلى أمه. عاد إلى الأم الحنون،فإذا هي شيخة تناولها يد الزمان بعسف شديد،ويشتد فرح الأم بعودة غائبها المتكبر،فإذا هو لها الشفاء من السقم،والعافية بعد البلاء،ثم يمر شهر أو شهران وتستعيد الأم عافيتها فتسقي شجيرات الحياة بأمل كبير في أن لا يغادرها ابنها من جديد. غير أن شيطان الكبرياء يثور من جديد في نفس ’’عبد الله’’ فيقرر العودة إلى ’’ ليبيريا’’ ويترك الأم وأملها الخائب وجرحها الدافق نهبا للأيام وعرضة للزمن،ويحزم حقائب السفر ويعود إلى ’’ليبيريا’’ الكبيرة. غير أن ليبيريا التي تنام على بحر من الماس،بدأت تدخل عالم الحروب الأهلية،وتشتد الأزمة،ويعود الرجل إلى موريتانيا،مخلفا وراءه زوجا ليبيرية وابنتها الشابة. عاد – كما يحدث عن نفسه – رجلا نصف فقير،يحمل معه بقية من مال،ليجد أمه قد غادرت الدنيا،ربما لم يأسف كثيرا لذلك الفراق ،فقد كتب عليها الفراق منذ أكثر من ثلاثين سنة. ربما سامحته قبل أن تغادر الدنيا،لكن الأكيد أنها رحلت بحزن عميق،وجرح نازف. عاد عبد الله وتزوج امرأة ’’ من علية القوم’’ من أبناء عمومته الكرام،غير أن طيف ابنته وزوجه الأولى لايزال يلح على وجدانه،ثم تأتي أخبار غير سارة،أنه أصبح جدا دون أن يشعر،فقد قرر ضابط ليبيري مغرور أن يتزوج الفتاة،وأمام رفض أمها لذلك الطلب الهزيل،هدد الضابط بقطع يدي الفتاة قبل قتلها إن لم تزف إليه،وأخيرا قرر موريتانون’’ تزويج الفتاة من الضابط المغرور،لتعود مطلقة بعد أسبوع واحد تحمل بين أحشائها شبح إنسان سيكون فيم بعد طفلة بريئة. وأمام الصدمة لم يجد عبد الله بدا من السفر من جديد،ليعود بابنتيه،وعاد بالشابة السمراء وابنتها الصغيرة،لكن زوجه ستكون لهذه الوجوه الجديدة،بالمرصاد،فتملأ البيت الصغير ضجيجا وصراخا،وتنجح بقوة في تصدير مشكلة يومية،تحول البيت إلى حجيم لا يطاق. وأخيرا قررت الفتاة،- حين سفر قريب لأبيها – أن تعود إلى حيث أتت،فلاتزال إفريقيا قبلة الهارب والغاضب،وتشعل أولى جمرات الحزن في قلب عبد الله الذي لم يعد فتى قويا،بل عاد رجلا كهلا،فقيرا..فرحت الزوجة بهروب البنت الغاضبة ورأت فيه مصداقا لكل ما اتهمتها به طيلة أشهر عديدة،لكنها كانت على موعد مع طلاق بائن،فعبد الله بات مقتنعا أن زوجته هي من طرد ابنته من منزله. جن جنون الرجل،فلا مال سيساعده على تتبع إثر البنت الهاربة،فلعها قصت آثار قدميه قبل أكثر من ثلاثين سنة،وهو يغادر أمه مغاضبا ثائرا،وأخيرا جمع من العطايا والديون مبلغا معتبرا للسفر،بعد أن بلغه أن ابنته تبيع ’’ملاحف البيظان’’ في غامبيا. خرج الرجل مسافرا وفي السنغال حيث قرر أن يعبر إلى غامبيا،وجد لصا موريتانيا احتال عليه،وسلبه كل نقوده،ليعود بخفي حنين. عاد رجلا متهالكا لا مال ولا جاه، لا الأهل يحنون عليه،ولا الزمن أبقى من نخوته أي شيئ،ولم تعد ’’خيمة الأب’’ تسقي من ظمأ ولا تطعم من جوع. ثم يلح عليه الأسى فلا يجد غير أمة سابقة تعيد بناء عشه من جديد،ولأنه فقير مريض لاتجد زوجته الجديدة وسيلة غير بيع ’’ الكسكس’’ لتعيل بها الرجل الفقير وأبناءه. واليوم وعبد الله يدلف بخطى الآلام إلى عقده السابع،يعتبر نفسه سلة أحزان منوعة،لايزال يأسف لأن أمه أدخلت رجلا وضيع النسب إلى بيتهم الشريف،ويأسف أكثر لإقدامه على ذلك العقاب القاسي ضد أمه،يستغفر الله كثيرا ويؤكد أنه يعلم أن ’’الجنة تحت أقدام الأمهات ’’ ولذلك فهو يسأل الله المغفرة كل حين. وفوق ذلك يخترق الدمع قسمات وجهه،عندما يتحدث عن ابنته التي كتبت عليه آيات الفراق،وسارت دون ’’كلمة وداع’’ وأكثر من ذلك يأسف لأبنائه’’الكرام’’ وهم يعيشون مما تدر عليهم يدا أمهم وهو تطحن وتعجن وتوزع رزم الكسكس على الأسر لتعود كل مساء بعد أن أسدل الليل ستار الظلام ببعض مئات من الأوقية،استعدادا ليوم آخر. ويأسف أكثر لأن الدهر كان قاسيا عليه،أيما قسوة،فلم تعد فيه قوة لمغالبة المرض، وهو على كل حال محظوظ ففي الحالات الكثيرة التي يفرض فيها المرض الحصول على جرعات العلاج يجد الأمر ميسورا ومجانيا في الغالب من الطبيب التقليدي في مكطع لحجار. عبد الله وهو اسم مستعار لرجل لايزال يعيش في مدينة مكطع لحجار في الوسط الموريتاني صورة أخرى من مجلد صور المآسي الكبيرة في موريتانيا. عبد الله لا يرهب الموت بل ينتظره كل حين،لكنه لايزال يعيش على بقايا أمل في لقاء ولو لدقيقة مع ابنته التي غادرته ذات صباح جريح. بحسب جيرانه فالرجل يعيش وضعا طبيعيا وعاديا جدا،فليس في الأمر أكثر من جرعات قليلة من ’’ذات الكأس الذي تجرعته أمه طيلة ثلاثين سنة’’
|