أتعبتك.. إنه بلدنا المسكين
الاثنين, 22 أغسطس 2011 15:21

 

altaltكان شيخا أشيب تبدو لحيته الكثة كأنها كتلة وقار وبراءة مطبوعان في وجهه..

كان يسير على الرصيف بكل عفوية وبساطة.. يحمل في يده اليمنى قنينة ماء ثلثي فارغة، وفي يسراه بعض الأدوية...

وكان حر الشمس الشديد يرغمه على التضييق من فتحة عينه، وكأنه يجعل من حاجبية ستارا يقي عينيه توهج حرارة شمس أغسطس الحارة

سلم علي برفق وبادر بالسؤال وكأنه لا يريد أن يأخذ الكثير من وقتي: "أين أقرب مكان لنسخ الأوراق"؟ التفت يمنة ويسرة فإذا بمباني الوزارة الأولى تحدني من اليمين، وليس عن يساري سوى مباني الجامعة الفارغة إلا من بعض أصحاب المتابعات الإدارية المزمنة، أو بعض النقابيين الشائمين سراب وعود كانوا قد وعدوها في سلسلة عرقوبيات العام الماضي حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئا بعامل ظرف قاهر أو "تغير" حكم.

 

قلت ليس في المكان أي ناسخات أوراق...

حمد الله وحوقل واستدار بزاوية مائة وثمانين درجة، وقال: "آه إن لكل إدارة أجهزة نسخ أوراق إلا هذه" ثم استرسل: "لقد قتلوني بالتعب وجهوني لتفرغ زينة ثم للكصر ثم لمقرهم الأصلي الذي كنت أعرف.. ثم هاهم يكلفونني ما لا أطيق على أمر بسيط ليس أكثر من تصوير أوراق"

اقتربت من الشيخ الذي استرسل في حديثه وكأنه حديث نفس، فهو يتحدث بصوت خافت، وكأنه يقصد خفض الصوت عني حتى لا يأخذ من وقتي أكثر مما أخذ.

أخذني الفضول والاستغراب فاقتربت لأعرف أكثر.. سألته يا والدي مالك ما الذي حدث؟ هل من مساعدة يمكن أن أقدمها لكم؟

فتنهد وقال: "لا شيء سوى حاجتي إلى رخصة سياقة ضاعت..

بدأت البحث عن تجديدها منذ أسبوع وحتى الآن ما زلت لم أحصل على شيء"... ثم استدرك: "الحمد لله ما يفعل الله بعبده المؤمن إلا ما هو خير له"

قلت الحمد لله، وسرت بجنب الشيخ عل كي أوصله إلى أقرب مكان لنسخ الأوراق.. سرنا معا على الرصيف، وآثار التعب والإرهاق بادية على الشيخ، رغم قرب المسافة التي كنا نقطعها.

كرر الشيخ مرة أخرى الحمد والثناء على الله ثم كرره مرات ومرات...

شعرت أن الشيخ يفكر في شيء ما... فجعلت أحمد الله في نفسي مرة، وأرفع الصوت -نسبيا حتى يكون نصف مسموع- في مرة أخرى كنوع من المواساة ومشاركة الحال التي لا أعرف تفاصيلها بالضبط.

أكثر الشيخ من الحمد والحوقلة فوجدتني –إنسانيا- مضطرا لسؤاله، ومع ذلك أخشى الفضول والحرج...

ترددت كثيرا ولكني أخيرا جزمت فسألته: خيرا إن شاء الله، قال "الحمد لله.. تؤلمني ركبتاي.. وهذا البلد فاسد في كل شيء ".. فكرت في العلاقة بين ألم الركبتين وفساد البلد.. لم أستطع سؤاله عن العلاقة.. حاولت أن أكتشفها بنفسي إلا أنه لم يترك لي فرصة للتفكير.

فاستدرك: "ليست الإدارة المسؤولة عن رخص السياقة بأسوأ حظا من غيرها بل كل شيء معقد.. حتى الطبيب حين تزوره يطلب منك أن تبحث له عن إبرة ثم عن قطن ثم عن مرهم..." قلت لا حول ولا قوة إلا بالله، سكت الشيخ لحظة ثم قال: "ليس هذا بتصورات ولا بأوهام هذا ما شاهدته بعيني حين زرت مستشفى السبخة، وحين سألت الطبيب عن التمويلات التي تحصل عليها المستشفيات من الضرائب التي ندفعها من جيوبنا قال: مقتنيات المستشفى بكل صراحة توزع فيأخذ المدير نصيبه وآخذ أنا -كغيري- نصيبي"

وقف الشيخ لوقت قصير حاول مبادلة المحمولات بين يديه أو جمعها في يده اليسرى، وكأنه يريد أن يضع يده اليمنى على كتفي.. لم تستطع يسراه جمع "الماء والدواء".. فاكتفى برفع يمناه على جهة كتفي... دون أن تصله...

ثم تنهد وقال: "بني إن بلدك يحتاج.. وقد حدثني فرنسي كافر كنت سائق سيارته ذات مرة عن هذا البلد.. وأكد لي أن السبب في عدم نجاح التنمية والتقدم فيه ليس الفقر فهو أغنى من بلدان الخليج.. وإنما الأنا الذاتي والقبلي...

بني سأقص عليك مصداق كون بلدك في حاجة إلي الشباب الذين لم يتلطخوا بحمأة الحياة ولم يتح لهم من العمر ما يعرفون به حقيقة سوءها"

بقيت أنظر في الشيخ وأكتم أنفاسي.. وأتردد بين أن أبدي ملاحظة أو همسة تشعر الشيخ بمتابعتي لحديثه الشيق.. وبين ما يقتضيه أدب الاستماع من إنصات كلي، مع خوفي من أن يفهم الشيخ من همستي نوع تململ من الاستماع لحديثه، خاصة أني أرى على وجهه رسائل تؤكد أنه لا يريد أن يأخذ من وقتي أكثر مما أنفق.

واصلنا السير عبر الشارع الرابط بين جامعة نواكشوط والجامع الكبير.

وواصل الشيخ حديثه: "لقد كان لي أخ أحبه أقصى ما يكون الحب، ولا يبادلني بالضرورة تلك المشاعر.. فكان أن أصابني الروماتيزم في ركبتي (أو الهرم على الأصح بغض النظر عن تعبيرات الأطباء عنه وتشخيصاتهم له)، فجئت نواكشوط، ولعنت الشيطان وقررت أن أزور أخي...

التقينا في نقطة ساخنة، والليل يطاردنا وآلام ركبتي ينسينيهما فرحي بأخي الذي لم ألقه قط"

وسكت الشيخ لبعض اللحظات وكأنه يحلل نفسية أخيه، ويقارن بين الألمين أيهما أشد ألم الركبة وألم الصدود.

ثم تنهد واستأنف حديثه: "كنا خارجين من نقطة ساخنة والمغرب يقترب، والزحمة كثيرة، وركبتاي تعيقاني عن متابعة أخي.. حيث كان يهرول ويسرع عني وكلما زاد في سرعته تذكرت بر أبي فهرولت –حسب الطاقة- في إثره، وبينما أنا كذلك إذا برجل يقول لي: احمد الله احمد الله.. قلت ما الخطب؟، قال الحمد لله على السلامة.. من بقي له عمره ولم يصب في جسمه فليحمد الله"

نظرت إلى عيني الشيخ فإذا ببقايا دموع تجمعت من روافد شتى تتجمع في موقيه فيكبتهما قدر المستطاع، ويستعيض عن ذلك بالتركيز على الحفر والأتربة الواقعة في حافة الطريق.

جال كل شيء بذهني ولم أدر ما حدث للشيخ، ذهبت بي الظنون كل مذهب.. وفكرت في كل شيء، وأخيرا قلت لعل شيئا من القصة فاتني –رغم إنصاتي- أو لعل الشيخ بعامل الشيخوخة خلط قصة بأخرى.

قطع علي الشيخ التفكير وحسم لي ما حدث فقال: "لم أكن حينها أعلم ما حدث، تلمست جسمي فلم أتبين مكان الإصابة" نظرت إليه مرة أخرى فإذا به يحرك جفنيه وكأنهما جبال أو كثبان رملية ملتحمة فوق عينه، أوكأنه يرفع بتحريكهما إلى الأعلى ستارا من المجهول عن قصة لم تتضح معالمها بعد.

التفت الشيخ إلى الشارع على جهة اليسار، ثم عاد سريعا، وكأنه أزاح الأثقال عن عينيه هناك، ثم استأنف حيدثه قائلا: "أنا لم أأسف على النقود التي ضاعت، فهي نيف وعشرون ألف أوقية وليست بشيء، (وإن كانت ثمن علاجي الذي حصلته بعرق جبيني والذي لا أملك حينها سواه)، وإنما أسفت أسفين: أولهما في الحين على فوات فرصة لقائي لأخي مني، ثم أسفت ثانيا على حال بلدي الذي يعتدى فيه على إنسان مسالم في مساء رمضان والناس لا يستطيعون رد الاعتداء"

ثم استدرك وقال: "أنا لو لم يخبرني الرجل المار بجانبي عن اللص وكيف ضربني لما علمت بشيء فالأمر كان بدرجة من السرعة أفقدتني الإدراك، خاصة أن كثرة حركة المارين مع المغرب كانت تسبب لي الدوار".

فجأة سكت الشيخ وكأن شيئا ما منعه من الكلام، أو كأنه انتبه من سِنة.. وقال: "حسبك الآن.. حسبك، أنا الآن يكفيني فقد رأيت مصورة الأوراق، أتعبتك.. إنه بلدنا المسكين".

افترقنا وأنا أرمق الشيخ وأحاول معرفة أعمق بما كان.. والفضول يحشر في ذهني الأسئلة وعلامات التعجب والاستفهام، ولكن عينا الشيخ حين قال لي "حسبك" تقسمان أنه قد تاب من الحديث ولن يعود.

 

أتعبتك.. إنه بلدنا المسكين

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox