altثلاثة رجال وامرأتان، هي أسرة أهل محمدو، خمسة أشخاص، أصيب ثلاثة منهم بشلل نصفي أقعدهم عن الحركة والعمل فيما هاجر الباقيان بعيدا عن الأسرة، وتركا المقعدين يواجهون مصائرهم بأنفسهم...
بداية المأساة.. مع "بابا" كان بابا كما يقول عن نفسه شابا فتيا في ريعان الشباب يتدفق قوة وحيوية، وصحة ونضارة، وبينا هو كذلك فجعه الموت في أبويه، ولم يعقبهما إلا مرض قعد به شهرا عن الحركة وعانى فيه الآلام، ولم يعرف طول فترته للمستشفيات طريقا، ولا للعناية سبيلا.
تختلف رواية بابا للمرض مع رواية أخته فاطم مباركة التي كانت خير سند له في أيام الضراء، فحين يقول بابا إن المرض كان حمى شبيهة بحمى "تاوجاط" "حمى الناموس، أو الملاريا" فإن شقيقته فاطم مباركة ترى مرضه كان بسبب السعال.. وعلى كل تعددت التعليلات والمرض واحد، فبابا مرض مرضا شديدا.. بقي فيه شهرا لا يذكره ذاكر، بل يقول إنه كان يقضي الأيام المتعددة ولم يكلم أحدا ولم يكلمه أحدٌ نظرا لانشغال الرجال بتربية الماشية والكدح على العيال، وكان المحيطون به يكتفون بأن يحولوه عن الشمس –إذا انتبهوا لوجوده فيها- وهو في عريشه طريح الفراش لا يملك حركة ولا سكونا، ولا يجد التغذية اللازمة ويحول فقره دون توفير ما يحتاج من دواء وغذاء.
وتعود لبابَا الحياةُ..
كاد بابا يفارق الحياة ويودي به المرض لولا فضل الله سبحانه وتعالى وعناية أخته التي جاءته حين علمت بمرضه، وواكبته واعتنت به رغم عجزها عن تقديم أي خدمة مادية، لكن كينونتها إلى جانبه، وحنوها عليه أكسبه القوة النفسية اللازمة لمواجهة المرض، ليأتي الفرج مع رجال محسنين ذهبوا به إلى المستشفى فعوفي من مرضه، ورجع للحياة لكن بشلل في رجليه لم يحركهما بعده...
قرر بابا الرحيل بعد ذلك عن القرية النائية التي كان يسكن، فالتحق بالعاصمة نواكشوط وبدأ رحلة الكدح على أختيه، واستطاع جمع قدر من المال –عن طريق تبرعات وصدقات كان يجمعهما من محسنين- أن يشتري قطعة أرضية، ويبني فيها دارا لأختيه "فاطمة، وفاطمة مباركة". وتتجدد المأساة: ما تكاد فرحة الدار تكتمل حتى يرمي الدهر الخؤون الأسرة مرة أخرى بسهم من سهامه الذي لا تخطئ.. كان السهم هذه المرة من نصيب فاطمة الأخت الصغرى لباب "فاطمة" حيث أصيبت بحمى شديدة أعقبتها جنونا كليا، كلف الأسرة فترة من الإقامة والتردد على مستشفى الأمراض العقلية.. (وما يتبع ذلك من تكاليف مادية لم تكن الأسرة على دراية بها، ولا على استعداد لها) شفيت فاطمة من المرض، ولكنها كأخيها باب خرجت من مرضها مصابة بشلل في الرجلين أقعدها عن الحركة، لتكون ثاني المقعدين في الأسرة...
وتضطرب أيضا تحليلات فاطمة مباركة وبابا لأسباب الشلل، فحين يراه بابا ناتجا عن الحمى التي أصابتها، ترى فاطمة مباركة شلل شقيقتها ناتجا عن الأدوية والمسكنات العصبية التي كانت تستخدمها أيام كانت في مستشفى الأمراض العقلية...
وتلتحق فاطمة مباركة بالركب:
لا تكاد تمر فترة طويلة حتى يبدأ الوهن يدب في رجلي فاطمة مباركة، وتبدأ أعصابها في الارتخاء، وتجد في الحركة صعوبة، وفي الأعصاب انقباضا إثر كل حركة.. ويزداد انقباض أعصاب فاطمة مباركة بعد كل حركة، وتبدأ فترات الانقباض تطول لتصل أياما عديدة، ما أقنع مباركة أنها لم تعد قادرة على الحركة وبالتالي أن الشلل قد اكتسحها... لتجلس في الدار وترضى بالقضاء...
ولا تعرف فاطمة مباركة سببا مباشرا لهذا المرض سوى أن طبيبا أخبرها قبله بفترة أنها مصابة بفقر شديد في الدم.. وأنها بحاجة إلى الاعتناء بنفسها، إلا أن الفقر، وحال الأسرة.. حالا دون ذلك... بابا.. حين تتكسر النصال على النصال: ظل بابا رغم كل هذه الفترة المعيل الوحيد للأسرة والكادح من أجل حياتها
يكابد هم العيش ظاهر أمره
ويخفي هموما تكتويها الأضالع
إلى أن جاء ذلك اليوم الحزين الذي خرج فيه باب كعادته نحو المسجد، وصلى صلاة الصبح فيه، وتوجه للطريق الرئيس في ملح، ليبدأ رحلته اليومية المعهودة نحو "رحمة الله واستجداء المحسنين"، ولكن جرت الريح بما لا تشتهي سفينة باب الغارقة في آلامها ومآسيها وجاء السهم من حيث المأمن...
فبينما باب في طريقه إلى الشارع الرئيسي إذ رآه أحد المحسنين وحاله تكفي من سؤاله (مقعد يتحرك على يديه) فرقّ له، وقرر أن يحمله في سيارته إلى حيث يتجه لكن كثرة السيارات بالمكان أربكت بابا كما يقول فاضطر للاقتراب من سيارة المحسن لتطأ عجلتها ذراعه وتهشمه، فتتغير بذلك وجهته، ويتوجه نحو المستشفى الوطني، برفقة المحسن الذي كان يريد نقله، فأراد القدر أن يكون المسؤول عن علاجه، أو عن مرحلة منه على الأقل.... رحلة العلاج... لم يكن للأسرة تاريخ طويل مع العلاج، ولا محاولات كثيرة له نظرا لضعفها المادي، ورضاها بحالها الذي صارت إليه... ولكنها لم تترك العلاج كليا، وإنما حاولته محاولات متعددة، فبعد محاولة بابا العلاج، وانتقاله من البادية إلى نواكشوط، وبعد رحلة فاطمة الطويلة مع مستشفى الأمراض العقلية، كانت فاطمة مباركة أول من حاول العلاج، ولكنه كان علاجا من نوع آخر، فقد كانت تزورها محسنة تعمل في أحد المستشفيات (لا تعرف فاطمة ولا المحيطين بها ذلك المستشفى ولا أي معلومة عن المحسنة التي كانت تأتي من عنده) وتقدم لها بعض الأدوية بأثمان تقول إنها مخفضة، وبالفعل شعرت فاطمة مباركة بالراحة والتحسن إثر استعمال تلك الأدوية إلا أن تجاوز المبلغ الإجمالي لتكاليفها سقف 60 ألف أوقية، وتزامن ذلك مع الحادث الذي كسرت فيه ساعد بابا حال دون مواصلة العلاج، ما جعل فاطمة مباركة حتى الآن لم تر طبيبا بشكل مباشر.
وما إن توقفت فاطمة عن استقبال الأدوية من المحسنة التي كانت تأتيها بها من طرف مستشفى مجهول.. حتى بدأت رحلة بابا مع العلاج إثر كسر في عضده.. بدأ باب بالعلاج في المستشفى الوطني، وبعد فترة لم يرض عن الطريقة التي يعالج بها، وقال إن الآلام ما زالت هي هي، والسهر ما زال سيد الموقف.. فقرر التحول من المستشفى الوطني إلى طبيب تقليدي أو حجاب (حسب وصف بابا فإن ما يمارسه مزيج من الشعوذة –أو العلاج النفسي- والرقى.. والأدوية الطبيعية)، في مدينة "بكه" بولاية لبراكنه، يُقال إنه خبير بتجبير الكسور، فأزال "الحجاب" عن باب الجبيرة، ورغم أن بابا لم يذكر لنا بشكل محدد العلاج الذي تلقى عنده أو أنه رقاه فإنه أكد أنه تلك الليلة بات بخير ليلة، وذاق نوما لذيذا طالما حرمته إياه آلام يده...
ليعود بعد فترة إلى المستشفى الوطني مرة أخرى، فيؤكدون له عدم قابلية يده للشفاء نظرا لتهشم العظم من الجانب الذي يلي الساعد، ما يمنع انجباره بشكل نهائي.. خاصة أن الرجل متقدم في السن... جفاء الأخوين: رغم الصعاب والمآسي التي تعرضت لها الأسرة فإن أخوين سليمين من أفرادها ما زالا حيين، إلا أن الهجرة، وقلة الاكتراث كما يقول باب يحولون دون تلقي الأسرة أي مساعدة منهما إلا قليلا...
فمختار أصغر الأخوين جاء إلى الأسرة رفقة زوجه بمناسبة الكسر الذي أصيب به بابا، لكنه سرعان ما عاد إلى عمله مع أخيه محمد في متجرهما في كنكوصه إثر خلافات بين زوجه وأخواته... مخلفا وراءه ثلاثة أشقاء مشلولين...
ومحمد كان قد هاجر إلى ساحل العاج، وتزوج هناك من سيدة جاء بها إلى أهله في "اشباريات" وتركها لأخيه باب يعيلها، وبعد أن دخلت الإسلام وبعد فترة من الإهمال –كما يقول باب- طلقها محمد، وحولها باب إلى نواكشوط وأدخلها محظرة في ملح لتعليم النساء بعدما لاحظ نباهتها وقدرتها على الحفظ؛ لتلتحق بها والدتها –التي ستدخل الإسلام هي الأخرى أيضا- فيكونان عالة على الأسرة المعوزة، قبل أن يرتحلا نحو بلدهما أيام تعطل بابا عن الكسب إثر الكسر الذي أصاب ذراعه.
ومع ذلك فما زالت صلة بابا بهما وثيقة، خاصة أنهما سافرا بابنة أخيه، وقد وعداه قبل ليلتين بالرجوع إلى موريتانيا بعد العيد بسبب المجاعة والمضايقة التي يتعرضان لها هناك... مرض مجهول.. لا تعرف له أسباب: رغم أن بابا مقر بأن لديه أقارب مصابين بنفس المرض (أبناء عم) (وأبناء خال) فإنه لا يربط بين الشلل الذي أصاب الأسرة، والشلل الذي أصاب أسر أقاربه الأخريات، بل لم يفكر في الأمر يوما واحدا، كل ما يعلمه أن أبواه ماتا غير مقعدين.. ولا أحد من العائلة يولي مسألة الوراثة، أو معرفة الأسباب الكامنة وراء المرض اهتماما، ونقص الصلة بالمستشفيات كان خير معين على إهمال هذا الجانب.
وعلى كل فبابا الأخ الأكبر في الأسرة (والذي لا يعرف متى ولد بالضبط، ولا يعرف عن ذلك الأمر أكثر من أنه ولد عام "عيطت لخروف"، وأنه هو أكبر الأسرة، وليست لديه أي أوراق هوية، ولكن لدى شقيقته فاطمة مباركة شهادة ميلاد –لا ندري مستندها- تثبت أنها ولدت عام 1976م، ولا يعرف بابا كم يفصل بينه وبينها من الزمن... كل ما يعرف أنه أخويه مختار ومحمد أكبر من فاطمة مباركة) لم يعد يستطيع حمل هم العائلة، ولا الكد عليها.. وشقيقاه مختار ومحمد لا يهتمان –كما يقول- لحال العائلة، وهو مع كل ذلك راض بالقضاء، مطمئن بالعدالة الإلهية... آفاق المستقبل: لم يعد بابا يأمل في الشفاء، ولا يتوقعه، ولكن فاطم مباركة التي جربت العلاج لفترة قصيرة، ورأت نتائجه المهمة تأمل أن يتيسر لها التأكد من خبر سمعته قبل رمضان الماضي مفاده أن مستشفى ذا خدمات مخفضة موجود في مقاطعة توجنين "بوحديدة"، وأنها تأمل التأكد من ذلك، ثم بعد ذلك التحرك نحوه عل أن يكون به شفاء، وإن كانت لا تملك ما يكفي من المال لتغطية تكاليف التنقل بين ملح و"بوحديده" ولكن أملها في الله كبير كما تقول.
وعموما ترى الأسرة في الحديث عن الشفاء نوعا من الفضول، وإنما يقتصر تفكيرها وينصب على لقمة عيش تقتاتها في الأيام المتبقية لها من الحياة، بعد أن جفاها القريب، وكشر لها الدهر عن أنيابه، فهل سترى الأسرة يوما – في مجتمع مسلم معروف بتعاطفه مع الضعفاء- طعم الشفاء، وحلاوة الأخوة والمساعدة....؟؟؟؟
|