عبد الله ولد اتهامي ..معاناة تختزل |
الاثنين, 14 مايو 2012 16:35 |
في حي معزول على أطراف نواكشوط حيث يكون للحياة طعم المعاناة ومرارة الشقاء وفي مخبأ متواضع تعيش أسرة العامل المكدود عبد الله بن التهامي، أسرة تتجرع مآسي الفقر والحرمان كل يوم آلاف المرات ولكل من أفرادها حظه من المعاناة لكن حظ العائل والأب تهامي يظل الأوفر والأعظم. يعتدل التهامي في جلسته ويتحسس بيده خطوط جبهته التي غضنتها التجاعيد وأسرعت إليها آمارات الشيخوخة رغم صلابة عوده واستقامة قده، كان يحاول أن يتذكر سنواته الأولى في نواكشوط وذلك بعدما أصبح شريط حياته سلسلة ممتدة من العناء والألم لا يدري فيها من أين يبدأ ولا من أن ينتهي؟ وإذا كانت الطفولة هي مرفأ البعض للخروج من الذكريات الحزينة فإن تهامي عاش-كما يقول –طفولة بائسة بإحدى قرى آفطوط التابعة لامبود حرمته فرصة التعلم والذهاب إلى المدرسة كالعشرات من أترابه، لكنها أكسبته قدرة على التحمل قل نظيرها وقوة عارضة ولجاجة لا زال يعرف بهما بين زملائه حيث كان عليه أن يساهم في إعالة إخوته وأبويه وأن يطرق حياة الحرث وفلاحة الأرض في سن مبكرة. كان ارتباطه بالأرض كأي فلاح لكن ما جدوى مسقط رأس لا يجد فيه المرء قوت يومه ولا يمكن له أن يعيش فيه بكرامة كما يقول لذا سرعان ما التحق بقطار النازحين إلى نواكشوط ولم يكن له من مضيف غير أخته الفقيرة التي سبقته إلى المدينة، تلقفه عالم المدينة –كما يقول –وأغرم بالعمل بالميناء حيث كان الناس يتندرون بكثرة خيراته، ورغد العيش الذي يرفل فيه العاملون فيه،ومع ذلك لم يستطع تحقيق آمنيته إلا بعد سنوات عدة، وبعد مزاولة أعمال بسيطة كبيع الماء وضرب اللبن وبيع اعلاف الحشيش اكتشف أن سحر البداوة وجاذبية العودة إلى مرابع الخلان لا زال يعيش في نفسه فقرر العودة إلى القرية من جديد-على الأقل حتى ينعم بغلة موسم زراعي واعد فيستريح لأشهر من حياة الكد والنصب لكن المقام في القرية طال هذه المرة وذلك بعدما اكتشف أن العيش في القرية-وإن كان بائسا ومعدما إلا انه اقل تعقيدا وكلفة. وجد في العزلة التي تضرب طوقها على قرى آفطوط فرصة من خلال عمله كعتال على عربة لنقل الأشخاص والأمتعة بين القرى القريبة وذلك مقابل رسم بسيط كان يحلم بان يمتلك حصانا لجر العربة بدل حماره الهزيل بطيئ الحركة لذا ما إن لاحت له أول بارقة للظفر بهذا الحلم حتى عقد العزم وتوكل على الله، كان يدرك إن في الأمر حيلة ومكيدة كبرى وان المقابل لن يكون يسيرا وأن الغوص في حبائل السياسة قد يكلفه الكثير ويجعله ألعوبة بيد شيخ القرية إن حاول الخروج على إمرته وسلطانه... قبل كل الشروط بما فيها الخضوع لوجيه القرية الذي اشرف بنفسه على عقد التسليم بين تهامي ومسؤولي المشروع المسؤول عن إغاثة منمي آفطوط لكن الاتفاق لم يكن سوى صفقة في مقابل شراء ولائه للحزب الحاكم آنذاك وموالاته لاختيارات الشيخ الوجيه، كان تهامي يعتقد أن الحصان من حقه باعتباره من أكثر ساكنة القرية فقرا وهو مستعد لدفع ثمنه على أقساط ، فيما يرى الوجيه إن كل ما في القرية طوع أمره ورهن إشارته والجميع يدرك ثمن الخروج على سلطته ومخالفة أوامره، كان يذل نفسه في تلبية طلبات الشيخ الوجيه التي لا تنتهي ويسخر كل ما لديه في خدمته، لكن الطلبات كثرت وريع الحصان لم يعد مشجعا خاصة بعدما أصبح لتهامي زوجة وعيال يكدح سحابة نهاره لإعالتهم..وفي نزوة غضب عارمة –كما يقول تهامي –وقع المحظور وأصبحت العلاقة بين الرجلين على كف عفريت فلم يألو الوجيه أي جهد للانتقام من فرد بسيط من رعيته –كما يعتقد لا حول له ولا قوة –فأمر بإرجاع الحصان وربطه لدى منزل الشيخ والبحث له عن رزق خارج القرية، أو الصبر على جفاء الوجيه ومناصريه –كان يدرك أن ساعة الرحيل عن مضارب الآباء والأجداد قد أزفت لكن إلى أين..؟ وفي الأرض منجا للكريم من الأذى وفيها لمن خاف القلى متقلب وهل يكون الرحيل إلى امبود أقرب مدينة ؟ أم إلى نواكشوط التي طال عهد القفول إليها وربما قد تبدلت أحوالها نحو الأفضل؟ لم يدع سقوط أخته بين براثن مرض فتاك أودى بحياتها فيما بعد لديه من خيار فقرر النزوح وتوديع الأقارب والجيران –وما أقسى لحظات الوداع- لذا كان عليه أن يتعلل باصطحاب أخته المريضة ورعايتها في نواكشوط..وبدل أن يعود إلى نواكشوط عائلا يبحث عن عمل هاهو يعود إليه فقيرا مدينا يحمل هم علاج أخته التي تصارع المرض، نزل لدى أخته الأخرى في أطراف نواكشوط كالعادة وبدأ مزاولة أعمال يدوية بسيطة لكن الرغبة في العمل بالميناء ولو كحمال لا زالت تراوده، كان قد اكتسب من عمله على الحصان تجربة في التعامل مع الآخرين، كما وسع الاحتكاك بساسة القرية مداركه وهمومه ليعرف أن له وطنا لا تقل همومه –هو الآخر عنه ، وان هناك المئات بل الآلاف ممن يرزحون مثله تحت نير الفقر والحرمان فلم لا يكرس ما بقي من حياته لمناصرة هؤلاء والدفاع عنهم، وفي غمرة انشغاله بتلك الهموم وجد فرصة في العمل في الميناء كحمال ، فسقف طموحه كغيره من الفلاحين الراضين بالموجود يبقى غير كبير. وفر له العمل بالميناء رغم مشاقه دخلا شهريا للصرف على عائلته، وجد في الميناء عالما جديدا :مئات العمال الكادحين من أمثاله مما أشعره بنوع من الرضا عن واقعه، وإن لم يفهم كيف يسكت هؤلاء العمال عن حقوقهم ولم لا يطالبوا بمزيد من الأجر والضمانات الاجتماعية بدل الارتهان لرغبة المسؤول الأول في الميناء..لم يجد إجابة مطمئنة إلا بعد فوات الأوان وعندما اكتشف عدد المناديب والنقابات التي تدعي الحديث باسم عمال الميناء، وكيف أن هناك سياسة ممنهجة لضرب بعضهم ببعض وتشتيت وحدتهم بالسياسة طورا وبالانتماء النقابي أخرى، وبالرشوة حينا آخر. ولى تهامى وجهه شطر السياسة فحمل هموم الطبقة المطحونة من العمال وبني جلدته لكنه أيضا لم يجد ما يشفى غليله، وإن خرج من مجالسها بثروة لا بأس بها من الجدل والمصطلحات السياسية التي كان يلوكها -كما سمعها- أمام زملائه فيكبروا فيه هذا الهم ولا يبخلوا في الإشادة بتفتح مداركه ووعيه بسياسات وطنه وهموم بلاده. حمل تهامي أفكاره ومشاكله إلى أكثر من صحفية وموقع إعلامي في نواكشوط ، وكان يحلو له أن ينتقل بين مقرات الصحف حاملا رزمة من الأوراق التي تدين ممارسات الاستغلال والحيف التي كان شاهدا على جانب منها في الميناء وذلك عندما كاد أن يفصل ويحال إلى تقاعد مبكر لا لشيء سوى سقوطه خائر القوى في إحدى نوبات العمل ودخوله في غيبوبة لساعات بسبب الإنهاك والعياء، وهو ما أثبته الكشف الطبي لكن كان لمكتب الشغل بالميناء رأي آخر وهو أنه لم يعد يصلح للعمل ولا قادرا على الشحن والتفريغ، وبعد صولات وجولات مع المكتب قيدوا اسمه من جديد في قوائم جورنالية الحمالين لكن براتب أقل ومزايا أدنى.. كان تهامي شاهدا على أحداث جسام في نواكشوط كإضراب الحمالين المطالبين برفع أجرة الحمل والتفريغ وهو ما انتهى إلى تسوية غير مرضية كما يقول..وذلك بعدما رماهم الكل بقوس واحدة واختزلت كل هموم البلاد في هذا الإضراب ..كما رأى بأم عينه رئيس الجمهورية وهو يزور الميناء خاطبا ود عماله ومتعهدا بتحسين ظروفهم وهو ما لم يجدوا له أي أثر منذ انتهاء الزيارة قبل حوالي العام كما يقول.. ومع ذلك فإن تهامي يعيش الآن حياة شبه مستقرة في مسكن أخته على أطراف نواكشوط وذلك بعد ما توفاها الله وكان هو وريثها الوحيد. لم يتغير المسكن كثيرا بعد المرحومة أخته فلا زال كما هو: كوخان من الخشب ومرافق من الصفيح، لكن العيال زاد وتكلفة العيش في نواكشوط أصبحت باهظة لا تكاد تفي بها أجرته البسيطة كحمال، ولا حتى بائع مياه على عربة حمار وهو ما لجأ إليه مؤخرا بوساطة من أحد الأقارب لكنه سرعان ما تخلى عن العربة لابن أخيه الفقير الذي عاد هو الآخر من مرابع آفطوط وهو يحمل هم عجوزين مقعدين لا عائل لهام وصبية صغار وأمهم وذلك بعدما تركهم في واد غير ذي زرع وفي سنة شهباء شح فيها القوت وتغول الغلاء.. الربيع العربي وحديث الثورات أيقظ في نفس تهامي أحلاما كبيرة كانت تراوده في فترة الشباب لكن رؤية عائلته الممتدة وأطفاله العشرة والذين لا يكادون يجدون ما يقيم أودهم أحرى أن يوفر لهم نفقات الدراسة والنقل وكذا رؤية الشاب ابن أخيه العائد لتوه من آفطوط، كل ذلك جعله يتمنى شيئا واحدا فقط وهو أن يكون حظ الوافد الجديد على مدينة نواكشوط(ابن أخته ) أفضل من حظه عندما وفد إليها قبل أكثر من عقدين من الزمن.!! |