المزارع ولد الجم :ربع قرن من العيش في أدغال نواكشوط |
السبت, 09 يونيو 2012 14:57 |
على أطراف مزارع السبخة من جهة الغرب ووسط الاحراش ونفايات أسواق السمك والخردة القريبة يقبع مخبأ صغير هو أقرب لأحد منافذ الحراسة منه إلى مأوى اسرة ومستقر عائلة .. إنه المسكن الاقرب إلى المزارع والادنى إلى مركز معالجة مياه الصرف الصحي بنواكشوط بل والاقدم في المنطقة التي ما فتئت أحوالها تبدل من حين لآخر.. داخل الخباء تقيم عائلة المزارع سيد احمد ولد أجم والتي اصبحت جزء من عالم المزارع والاحراش الغامض الذي تحيط به الخضرة من كل مكان وتترامى في سمائه ذوائب أشجار النخيل الباسقة فيما تتكدس المتاريس وحواجز جذور الاشجار والجريد على الارض لتحيل المكان إلى فضاء من القمامات وبقايا النباتات يمتد على سباخ جرداء زلقة هي كل ما تبقى من أول مشروع لإمداد نواكشوط بالخضروات ونباتات الزينة. في الجانب الغربي من المزارع تتراص المزهريات وأقفاص الخشب التي تحمل شتلات الاشجار وبعض الزهور والورود الباهتة من مختلف الألوان إنه الجزء الأكثر حيوية الآن والذي اصبح يمثل لدى مزارعي السبخة كل الأمل في أن يبقوا غير بعيدين من حوزاتهم في أطلال هذا المشروع المنهار. وحده سيد احمد قرر البقاء والاعتصام قرب المزارع رغم بؤس الأوضاع وكثرة المنغصات وليكون شاهدا على أفول نجم هذا المشروع الزراعي العملاق كما كان شاهدا يوما على سطوع نجمه وازدهار إيراداته ولعل ذلك ما شجعه آنذاك على شراء المزيد من القطع المستصلحة رغم ان رسم الدخول في المشروع لم يكن يزيد على ثمن طابع بريد من فئة 50أوقية.. واليوم يحمل ولد جم أطراف عدة كبلدية السبخة والوالي ووزارة الاسكان كل المسؤولية عن وأد المشروع وعن سلبه مئات الهيكتارات من الأرض الزراعية المعطاء وذلك بعدما زحف العمران على المزارع وطمرت أحلام المزارعين البسطاء تحت سطوة ونفوذ السماسرة المضاربين في القطع الأرضية وانتهازية رجال أعمال متنفذين على حد قوله. بداية الحكايةينحدر المزارع ولد الجم من ولاية تكانت وهناك خلع أثواب الطفولة البائسة بإحدى القرى المعزولة واتجه صواب نواكشوط في العقد الأول من الاستقلال. كان يحمل هم شيخين كبيرين وأخوات صغار هو املهم الوحيد وفي نواكشوط لم يلبث أن وجد ضالته في الزراعة التي تمرس عليها في سهول تكانت مما اكسبه جلدا وصبرا وقناعة بالموجود. كانت فرصته في اول مشروع زراعي بنواكشوط حيث اختار عمل كأجير إلى ان امتلك ما يشتري به قطعة أرض غير مستصلحة، كانت الاجراءات بسيطة حيث يكفي دفع 50أوقية ثمن الطابع البريدي لطلب الاستصلاح والتملك.. ومن خلال عمله استطاع أن يبعث بدفعات من المال لوالديه وأن يحسن من اوضاعه لكن طموح الشباب الذي لا يعرف حدودا دفعه إلى التفكير في الهجرة وان يبعد النجعة عسى أن يحرز مالا اوفر او يعود بتجارب أغزر. كان عصر الطفرة النفطية في أوجه بداية الثمانيات في البلدان النفطية فيما يكابد الموريتانيون ظروفا مأساوية بسبب اشتداد وطأة الجفاف والقحط ، أوشك العمل في المزارع ان يتوقف وكاد ريعه لا يسد رمقا ولا يغني من جوع، ولاحت فرصة للسفر إلى ليبيا وعندها لم يتردد سيد أحمد كما يقول فحزم أمتعه وخرج من العاصمة صوب مدينة لبيريكه بالشمال لليبي كان عالما جديد قد فتح ابوابه لاستقبال الوافد من اعمال الغرس والحرث ليجد نفسه حمالا بإحدى شركات استخراج النفط في المدينة، كان العمل أكثر تنظيما واقل مشقة من فلاحة الأرض لكن الغربة والبعد عن الوطن تركت شرخا في نفس سيد أحمد لم يستطع مقاومته طويلا لذا سرعان ما عاد أدرجه وبعد سنة ونصف إلى المزارع من جديد، جلب معه أموالا من غربته استثمارها كلها في شراء قطع زراعية جديدة قبل ان يدرك ان أرض مشروع السبخة لمن اصلحها لكن لجانا في الهلال الأحمر الموريتاني عملوا على الاتجار فيها ليبدأ صراعا من نوع آخر ضد سماسرة الأرض، والمتاجرين بآلام الفقراء والانتهازيين كما يسميهم لا زال يتذكر فصوله الأولى والتي لما تنتهي تداعياته وإلى اليوم كما يقول. في فخ المؤامراتاستنزفت خصومات الأرض ونزعاتها جزء كبيرا من فتوة سيد احمد ووقته وهو الذي وقف نفسه كما يقول ضد الطغاة والظلمة :كل عدته ثقة بنصر لله للمظلوم وقلب شجاع، ونفس ابية لا تقبل الضيم وتجارب عريضة في مجابهة الأهوال ومقارعة الصعاب. وكأنه يتثمل قول القائل : نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكر والإقداما. يتذكر كيف أن نزاعا على المزارع كاد أن يرمي به لسنوات في غياهب السجن وذلك بعد ما تهمه غرماؤه بقتل ابنهم وهو شاب أخرس كان يسقي لهم الزرع ويعمل في حقولهم المجاورة لأرض سيد احمد واحيل الملف إلى العدالة مع شهادة من أحد الأطباء بقتل الفتى –لا زال كلما تذكر-هذا الطبيب - أدرك كم اعمى المال اعين الكثيرين وقلوبهم حتى يشهدوا الزور ويوردوا انفسهم موارد التهلكة فهذا الطبيب لم يكلف نفسه عناء تحري الحقيقة قبل ان يقدم إفادته!! قادت التهمة الشنعاء المزارع سيد احمد إلى السجن لأول مرة ليمكث فيه اياما وليالي قليلة ويحصل بضامن من قريب له على حرية مؤقته استطاع خلاله أن يقبض على الفتى المتهم بقتله ضحوة ويجره إلى العدالة التي حكمت له برد الاعتبار وبالتعويض عن تهمة القذف ولكن بعد سنوات من التردد على اروقة المحاكم ومكاتب المحامين. لم يهنا سيد احمد كثير بالتعويض ولا برد الصاع صاعين إلى غرمائه وكانت فرحته عامة عندما تركوا له المزارع واضطروا لبيع حصتهم منها لتسديد أقساط التعويض!! لكنه الآن تفرغ لإعمار أرضه وغرسها بالنخيل والأشجار المثمرة واستصلاح مساحات منها لزراعة النعناع وبعض الخضروات كالجزر والخس والطماطم .. سراب الأملتوسعت المزارع واستقطب موقعها المتميز عشرات الفلاحين ومئات السماسرة الذين كانت أعينهم على منحى اسعار القطع الارضية في المنطقة والذي كان إلى صعود وبدل المزارعين المسالمين هاهو غريم جديد يدخل على خط المواجهة متحصنا بقوة المال وقوة النفوذ وهو ما يوشك معه حلم سيد احمد ان يتحول إلى سراب. كان بعض هؤلاء قد استطاع شراء عدة كلمترات من ارض المزارع لينشأ عليها محلات وورش للتأجير فيما تحول الجزء الشرقي من المزارع إلى سوق للسمك ومعرض لورش الحدادة وقطع الغيار لتبقى مزارع المشروع مطوقة بين المباني الاسمية والورش ومصانع الكيماويات ومعالجة مياه الصرف الصحي. كانت حاويات المياه المتعفنة بمثابة الحبل السري لمزارع السبخة فشقت منها المجاري ومدت الانابيب إلى ارجاء المزرعة المترامية وذلك لما توفره من ري وسماد طبيعي، ولم يشك أحد يوما في ان تتحول هذه النعمة إلى نقمة ولا ان يكون مصدر النماء والخضرة بؤرة لحرق النبات وإصابة الانسان بأمراض فتاكة، وهي الحجة التي تلقفها السماسرة للمطالبة بتوقيف العمل في المشروع وإعادة تأهيل الأرض كمبان سكنية وشوارع وميادين على شاكلة الأحياء القريبة...كان استصدار القرار يحتاج إلى موافقة جهات عدة وإلى المزيد من الدراسات الميدانية وهو ما أخره نوعا إلى منتصف 2004 حيث قامت السلطات بإحصاء للمزارعين وملاك القطع المستصلحة اسفر عن إحصاء ازيد من 604مزاعين وتم توقيع اتفاق يقضي بتعويض المزارعين في مقابل كفهم عن العمل في المشروع وهو ما سهرت السلطات بداية على تطبيقه من خلال حملات الحرق والتوقيف التي قامت بها لكنها في المقابل سرعان ما تخلت عن الشق المتعلق بالتعويض حيث لم يحصل المزارعون إلا على تعويض شهر واحد كما يقول سيد أحمد وكان عبارة عن خنشتين من الارز والقمح ومبلغ 10الآف اوقية، وهكذا عاد سيد احمد في من عادوا إلى العمل لكن مياه الصرف الصحي كانت في طريقها غلى النضوب وهو ما يعني خسارة مضاعفة بسبب فقد المياه والسماد، كان على سيد أحمد ان يتكيف مع الواقع الجديد فأنشأ تعاونية لبيع شتلات الأشجار والزهور والورود دون ان يفرط في حماية أرضه بالمشروع والتي تمتد عشرات الأمتار، كان يمر عليها بالغداة والعشي ليذب عنها ويدفع صولات غلمان السوق الذين جعلوها مقصدا لحرق أسلاك الكهرباء واستخلاص النحاس منها لبيعه لورش الحدادة المجاورة. مخالب البؤستبدلت اوضاع المزارع بعد سنوات من حبس مياه المجاري عنها فأصبحت خاوية على عرشوها كأن لم تغن بالأمس، كما تغيرت أحوال الأسرة الصامدة لتصبح على شفا المجاعة والفاقة بعدما عاشت من رغد عيش بين الحقول ومروج مزارع السبخة الغناء. وحده شغف سيد أحمد بالحراثة وولعه بحكايات البطولة وأمجاد القبيلة لم يتزعزع طوقت المحلات والمباني الاسمية المزارع من كل صوب لتكون مجرد هالة خضراء وسط غابة داكنة من المباني والعمارات السكنية..كما دفعت الاسرة ثمن صمودها في الأدغال باهظا وذلك بعد ما غيب الموت في عام واحد اثنين من ابنائها بسبب أمراض يعتقد أن لها علاقة بمياه الصرف الصحي المستخدم في ري المزارع ، كما ضعفت قوى سيد أحمد بعدما تناوشته امراض الشيخوخة، فيما لم يحصل الابن المتعلم في الأسرة على أي وظيفة حتى الآن رغم شهاداته المتوسطة في التكوين المهني ورغم متابعته لدراسة القانون بجامعة نواكشوط. ليبقى امل الأسرة اليوم بعد الله أن تمتد إليها يد حنون فستعيد لها حقها في ما استصلحت من أرض وسقت من غرس ورعت من أشجار مثمرة فتكون بلسما وشفاء لأوجاع أسرة هدها الفقر ورمتها خطوب الدهر عن قوس واحد ولم يبق لها من عزاء غير التدرع بالصبر أو مواساة ذي قلب رحيم وذي مروءة مشفق!! م.أجدود والطالب الدش |