السراج في بيت الشهيد الطيار ..أجنحة الحزن والأمل (صور) |
الثلاثاء, 17 يوليو 2012 17:32 |
بكلمات صابرة ومبكية في آن واحد يختصر الدكتور المحامي شيخاني ولد محمد صالح جانبا من حياة ابنه الشهيد الطيار الحسن ولد محمد صالح، بعد أن كتبت النار " والرحلة غير المبرمجة" نهاية تراجيدية لعمر شاب في مقتبل الحياة، يخطو بحماس الإنجاز والتميز إلى ربيعه السادس والثلاثين لا أكثر .. لكم يكون الموت مريعا جدا عندما يأتي بهذه القسوة والفجاءة لينزع أخ البنات الخمس ووحيد الوالدين وصديقهما من عالم الحياة دون أن يجدوا إجابات أكثر تفصيلا عن " كيف ولماذا ومن يتحمل المسؤولية " عن كل ما حدث.
هكذا كانت الكارثة
ويضيف الوالد " لقد زارنا بعض القاطنين في الحي الساكن يقدمون التعازي في المرحوم الحسن وقالوا" لقد أنقذ حياتنا كان بإمكانه أن يقفز من الطائرة، ويدعها تترنح فوق المساكن وستحصل كارثة كبيرة". من المسؤول بحنكة المحامي، وتكتم رجل الأمن المتمرس يصر المفوض السابق الدكتور شيخاني ولد محمد صالح على التأكيد على ثقته في الدولة وفي لجنة التحقيق، ويتساءل " من له المصلحة في إخفاء الحقيقة أو التستر على الإهمال" .. ويضيف المحامي شيخاني " في حالة الإهمال أو عدمه لدينا حقوق سنطالب بها ". ولكي نحصل على إجابات أكثر تحديدا.. كنا نعيد صياغة السؤال أكثر من مرة، وفي الأخير تساءل الوالد المكلوم عن " شكوك كثيرة" تراوده بشأن الرحلة وظروفها " لماذا رفض الطيارون الآخرون، أو اعتذروا عن الرحلة، وهل ما يتداوله الناس بشأن الطائرة ووضعيتها غير الجيدة صحيح، وهل صحيح أيضا أن الإسعاف تأخر أكثر من 35 دقيقة، فعلت فيها النار فعلها بتلك الأرواح الزاكية". ورغم كل ذلك " يضيف الوالد ... أعرف أن التحقيق والوصول إلى إعادة رسم الحادثة كما وقعت لن تفيد في إعادة الحسن إلى الحياة .. لا أحد يعود بعد موته.. وليس لنا إلا أن نقول " إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا لفراقك يا " حسن " لمحزونون".
مسيرة التميز
خالد .. هو النجل الأكبر للشهيد الطيار، ورغم ذلك فإن كل شيئ لا يزال صغيرا .. فخالد يخطو في عقده الرابع لا أكثر. يستعيد المحامي شيخاني خطوات ابنه الشهيد الأولى نحو الحياة .. كان ذلك في أحد أيام 1976.. انضم الحسن إلى الأسرة الصغيرة، كان شقيقا لخمس أخوات، وبسرعة استطاع حصد كثير من النجاحات في حياته القصيرة. يستعرض الوالد المكلوم أعدادا كبيرة من الشهادات التي تحصل عليه ابنه الشهيد الحسن، مضيفا " أشعر بأنني لم أقصر في إعداداه العلمي والثقافي وهذه شهاداته تنطق بنفسها، لقد واصل تسلسله الدراسي" ويتفحص الوالد الشهادات بشغف بالغ .. لقد باتت جزء مهما من الذكرى .. إنها شواهد الامتياز، وبقايا من ذلك الزمن الغالي .. زمن الحسن الشهيد... لشيئ قدر لا يدرك كنهه كان الوالد يحتفظ بأصول شهادات ابنه الحسن، لكنه اليوم يحتفظ بالأصول والنسخ المصورة منها .. لقد بات أصولا أصيلة من عالم الذكرى ونسخا حية من " حياة الحسن". ووفق أسرة أهل محمد صالح فقد تحصل الشهيد على شهادات الباكلويا مسبوقة بالشهادتين الابتدائية والإعدادية، وعلى شهادة الأستاذية في الهندسة من تونس، ليعود فترة قصيرة إلى البلد، كان بين خيارين مهمين، السفر من جديد إلى تونس لإكمال دراسته العليا، بعد أن حصل على موافقة من جامعته التونسية على ذلك، أو السفر إلى شركة اسنيم التي منحته هي الأخرى عرضا للتشغيل".
- يبدو أن السؤال كان جارحا للغاية .. يضيف الوالد المحامي .. "صعب جدا علي أن أفعل ذلك .. الأعمار بيد الله.. أرجو لخالد حياة سعيدة يحقق فيها طموحاته في الحياة.. لكن هل سأكون على قيد الحياة، عندما يكون حفيدي هذا شابا .. ذلك أمر .. أستبعده". بحسب المحامي الدكتور شيخاني فإن نجله الراحل كان يتقن خمس لغات هي العربية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية والروسية، كما كان شابا ملتزما بكل معاني الكلمة يضيف والده، كان كثير الصدقة، " كنت ألاحظه في ملتقيات الطرق، لم يمكن يسمح لسيارته بالتجاوز قبل أن يهدي بعض النقود للمتسولين على الطريق" كما كان محسنا إلى عدد كبير من أقاربه، وكان ينزعج من ذكرهم لذلك الإحسان".. بين الحين والآخر يختنف الشيخ الصابر بدمع سخين، ويردد في حشرجة مكتومة .. يرحمه الله.
أجنحة الموت.. في العام .1998. شارك الشهيد في مسابقة لاكتتاب ضباط للطيران العسكري، لينال الرتبة الأولى في دفعته، وليدرس أربع سنوات في كلية الملك فيصل للطيران في الرياض.. في نفس تلك الفترة كان الوالد أيضا يدرس في كلية نايف للعلوم الأمنية، كان هنالك الكثير ليجمع من جديد بين " الصديقين" الأب وابنه .. في الغربة الدراسية.. في سنة 2002 عاد الشاب الشهيد إلى مؤسسته العسكرية ليمارس دوره طيارا ومراقبا جويا بعد أن تحصل على شهادة عليا في التخصص. وفي مرحلة لاحقة، سيبتعث إلى المغرب لمدة عامين لكي ينال شهادة طيار من درجة ثانية، لاحقا سينتقل الشهيد الشاب إلى رتبة نقيب، وبها ختم حياته المهنية، بل رحلته في الحياة.
في بيتهم الصغير في تيارت، استقبلت الأسرة نائب قائد أركان الجيش الوطني، وقائد الطيران الجوي رفقة خمسين عسكريا من أصدقاء الراحل وزملائه.. الجميع أثنوا على الشاب الشهيد خيرا .. وأخيرا كشف قائد الطيران العسكري عن سر خاص " لقد كان الشهيد الحسن قائد العمليات في قواتنا الجوية" .. ربما لهذا السبب فهم الوالد متأخرا لماذا كان الجيش يرفض السماح لابنه بالتحول إلى الطيران المدني، خصوصا أنه تلقى عروضا مغرية من زملائه الطيارين في السعودية وقطر للالتحاق بهم في مؤسسات تملك طيرانا أكثر أمنا واحتراما لإجراءات السلامة. أسرة الشهيد باحتفاء وامتنان تلقى الوالد تعزية العسكر، لكنه يتذكر الآن أن على تلك المؤسسة التي استخدمت الشهيد الحسن عدة سنوات أن تواصل التكفل بأسرته، خصوصا أنه كان " ضابطا مثاليا" أسهم كثيرا في خدمة الوطن.. ترى هل سيكافئ الجيش الوطني شهيده .. بل شهدائه الذين سقطوا في رحلة " إلى الذهب " .. أم سيواصل مسيرته الطويلة في التنكر للراحلين.
غادرنا منزل " أهل محمد صالح" ونحن على ثقة بأن في صدر الوالد كثيرا لم يبح به بعد .. أما أم شهيد وزوجه وأخواته، فلم يكن في طوقهن محادثة الصحفيين، لفرط التأثر .. وودعنا الوالد بابتسامة نبيلة...وكلمات مالهن حروف.
***** سيرقأ الدمع قريبا ..تلك سنة الحياة.. وتحدث الأيام شيئا من السلو غير كبير، وإن يقف الدمع فثم أمور مالهن وقوف .. أبسطها سؤال عابر : إلى متى سيظل الوطن يرمي بفلذات أكباده في رحلة البحث عن " ذهب" لا يرى بريقه غير " العزيز وثلة من أعزائه".
|