يجلس العجوز السبعيني عالي ولد أحمد وهو يقلب النظر في ما تبقى من أطلال مزرعته في ما كان يسمى بمشروع حدائق السبخة، لقد افنى زهرة شبابه في استصلاح هذه الرقعة الصغيرة وطالما سعد بغلتها لكنه اليوم لا يفقد غلتها فقط بل هو شفا الترحيل منها ومصادرتها بحج واهية كما يقول.... .JPG) وإذا كانت السلطة لا تعاند حسب المقولة الشعبية الذائعة فلا أقل من أن يقتنص لنفسه لحظات وسط أجواء الخضرة الساحرة وهبات نسائم الآصال الحالمة..خلوة سرعان ما اجتذبت رفقاء لولد أحمد جمعهم وإياه هم المزارع ووحدت بينهم مرارة الظلم والحرمان وانتظار اللحظة الفارقة التي تلفظ فيها المزارع أنفسها وتسلم الروح بعد موت سريري لأكثر من عقد من الزمن. لحظة حاسمة يتمنى كل رفقاء ولد أحمد ممن تخطو عتبة السبعين أن يفارقوا الدنيا قبل أن يروها بأم أعينهم لكنهم ليسو وحدهم من ينتظر هذه اللحظة الفارقة بل السلطات التي لا تزال تماطل في وضع حل نهائي لملف المزارع الذي جرى ترحليه من نظام لآخر وتعددت القرارات والإجراءات الشكلية بشأنه لكن مع وقف التنفيذ. شريط الذكريات يتذكر ولد أحمد أول قدومه إلى ما أصبح فيما بعد مدينة نواكشوط وذلك قبل ثلاث سنوات من الاستقلال وافدا من أكجوجت كان شابا في مقتبل العمر حينها يطمع إلى إيجاد أي فرصة للعمل توفر له موردا للرزق وتغنيه عن مواصلة السفر وعبور النهر إلى السنغال. لقد وجد ضالته في الالتحاق بمشروع المزارع الذي كان تحت الدراسة انذاك وجرى تدشينه في 1963 على مساحة تزيد عن 1000متر مربع تم تقطيعها إلى حوالي 72 حوزة زراعية، لم يكن الأمر يتطلب سوى توقيع عقد مع الشركة المشرفة بدفع 620أوقية كل شهر وعلى مدى ثمان سنوات حتى تكتمل بعدها ملكية الأرض. لقد آلت ملكية القطاع الذي توجد فيه حوزة ولد أحمد إلى شركة سكوجيم وذلك في إطار محاصصة ملكية الأرض التي يقع عليها المشروع والتي تضم أيضا قطاعا تابعا للهلال الأحمر الموريتاني، وآخر تتوزعه مليكات تقليدية تتبع في معظمها منحدرين من مجموعة "أهل بوحبين" سكان نواكشوط الأصليين. تحمل حوزة ولد أحمد الرقم 46 من أصل 72 حوزة يضمها القطاع المذكور رغم أن عدد المزارعين والمسجلين فيه يتجاوز 625 مستفيدا. فترة ذهبية كانت سنوات الجفاف آواخر السبعينات وبداية الثمانينات فترة ذهبية لمشروع السبخة الخضراء -حسب ولد أحمد- وذلك عندما أوشكت غلتها من الخضروات والفواكه أن تغطي احتياجات سكان نواكشوط ولا زال يتذكر كيف أنها وفرت فرص عمل للمئات من أبناء الريف والبادية من الوافدين على العاصمة الناشئة سواء من باعة الخضروات أو النعناع ولا ينسى مشهد بعض الأحداث الذين كانوا يلجئون إليه في حقله فيجهز لهم ثمن 20أوقية فقط من النعناع فيذهبون لبيعها ويعودون لطلب المزيد وسرعان ما يمر على أحدهم بعد أيام وهو يبيع بضاعة بسيطة على الشارع أو يحمل في يده صندوقا خشبيا صغيرا لعرض مبيعاته من الحلويات والبسكويت واللبان....الخ. لكن عصر المزارع أخذ في الأفول حتى قبل اتخاذ الإجراءات الأخيرة لتصفية المشروع بما في ذلك قرار مجلس الوزراء القاضي بتحويل المشروع إلى الكلمتر 17 على طريق روصو، إذ سرعان ما ظهر الموقع المتميز لها في قلب العاصمة وبدا التنافس بين سمسارة الأرض لانتقاصها من أطرافها قبل الإجهاز على المشروع وتعطيله منذ 2002 بحجة خطورة سقي المزارع بمياه الصرف الصحي، تلك الحجة التي يقول ولد أحمد ورفاقه أن لا أساس لها من الصحة. تمسك بالأرض كغيره من مزارعي السبخة يتمسك ولد أحمد بمطلبه في البقاء على أرضه فهو لا يبيعها ولا يعيطها –حسب قوله –ولا يمكن أن يتنازل عنها وسبق أن تظاهر مع مزارعي المشروع أمام القصر للتراجع عن قرار الترحيل ولديه تنسيق مع باقي الملاك من خلال مكتب برآسة المرحوم عبد الرحمن آفال. لم يعد لدى ولد أحمد ورفاقه من مسني مزارعي السبخة غير التردد يوميا على حوزاتهم الأرضية بالمشروع والتأكد من أن أي اجراء جديد لم يتخذ على الأرض. خلوات وساعات سمر يلتقي فيها رفاق الدرب يتجاذبون فيها أطراف الحديث حول ذكريات الماضي وهواجس المستقبل لا رفيق لهم فيها غير هروات خشبية صلبة تخبر عن الوضع الأمني الخطير في المزارع التي في الآونة الأخيرة ملاذا للصوص والمنحرفين-أو جهاز مذياع قديم هو كل علاقتهم بالعالم من حولهم. انتظار قاتل ورغم حالة الانتظار التي تطبع الحياة في مزارع السبخة والتي تشعر الزائر بنوع من الوحشة والرتابة إلا أن بعض الشباب استطاعوا –ربما تحت إلحاح الحاجة والفاقة- أن يوجدوا لهم أعمالا غير مصنفة على شكل بيع شتلات الأشجار ومزاهر صغيرة لبعض نباتات الزينة والزهور. الشاب ورزك ولد أبياي أحد هؤلاء قال إنه ترك الدراسة النظامية ليلتحق بهذا العمل الذي يجني منه دخلا جيدا حيث يتراوح سعر الشتلات المعروضة ما بين 50أوقية وحتى 20000حسب نوعية النبتة ومدى وفرتها مؤكدا أن جل زبنائه هم من سكان الأحياء الموسرة في نواكشوط وليس الأجانب وحدهم من يهتمون بالمظهر الجمالي للمسكن. يقول ولد أبياي وهو يعبء علب الكرتون الصغيرة بنفايات النجارة استعدادا لغرس شتلالته الصغيرة فيها إن النجارة المتوفرة في مكبات الأوساخ هي أفضل سماد عضوي لمثل هذه النباتات الصغيرة.  أما المشاكل فهي كثيرة وليس من أقلها البيئة غير الصحية في المزارع حيث برك المياه الآسنة والباعوض وأكوام الأوساخ ثم كثرة حالات الاعتداء والسرقة لدرجة أن من الخطورة السير في هذه المنطقة بعد حلول الظلام، إضافة إلى سيف الترحيل والنفي من المكان والذي أصبح مسلطا –كل يوم على رقاب من لا زالوا يبحثون عن قوت يومهم فيما كان يطلق عليه يوما ما مشروع مزارع السبخة الخضراء في جنبات المكان تبدو الصورة شاحبة ربما أكثر من محيا العجوز ولد أحمد ورفاقه في التقاعد والذين تحامتهم الهموم وعجز الشيخوخة فقد غدت المزارع أقرب إلى مكب للنفايات والأوساخ والمياه الراكدة ينشر التلوث والمرض منها إلى حدائق غناء وأشجار ملتفة تفيض خضرة ونماء. |