بقلم : محمدن يحظيه
عندما دلفت إلى المحظرة مع عدد من زملائي في تسعينيات القرن الماضي، فشرفنا بالجلوس بين يدي العلامة : محمدو ولد أحمد لعل، والإمام بداه بن البوصيري، والعلامة انّ ولد الصفي رحمة الله عليهم وقد كانوا يومئذ نجوم العاصمة، ورموز الورع مع آخرين، في مختلف مقاطعات العاصمة. كنا أطفالا نرتقي في سلم التعلم ونتدرب على فهم العويص وتمييز الأشباه و النظائر، وكالعادة نصغي باهتمام إلى تشخيص مشايخنا لحال البلد، وأوضاعه، وإحساسهم كأئمة وعلماء ومدرسين بما يدور من حولهم في فضاء الدولة وإداراتها وخططها الاستراتيجية وما توليه من الاهتمام للعلم والعلماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الإسلام والدفاع عنه. وفي كل تلك الأحاديث والأحاسيس على اختلاف أزمنتها وأمكنتها، والأحداث الباعثة عليها، كانت الخلاصة التي تتشكل في أذهاننا، وتأخذ مكانها في المسلمات والأمر المفروغ من؛ أن الدولة الموريتانية الحديثة لم يحضر فيها عند التأسيس والاستقلال (ركن الدعوة والعمل الإسلامي) وإنما اكتفي من ذلك بالشعار العفوي دون القرار العملي. لقد كانت المحاظر ومدارس القرآن وزوايا التصوف والسلوك التي تملأ ربوع شنقيط يومئذ كافية في نظر الجيل المؤسس لسد الحاجة في مجال الدعوة والعلم، فلم يحاربوها ولم يساعدوها. مضت فترة من الزمن ثم ظهرت مدرسة الإمام بداه بن البوصيري وشاع طلب تطبيق الشريعة الإسلامية، وظهرت الجمعية الثقافية، ثم أسس المعهد العالي، وفي كل ذلك كان من الواضح للمتتبع أن العلماء والدعاة يطلبون أمرا غائبا ويجذرون فريضة تواجه الاقتلاع والتجفيف. وهكذا بكل وضوح كان ما يتحقق من مكاسب الدعوة والتعليم الشرعي منتزعا ومتأثرا بمزاج السلطة الحاكمة، ليصل الأمر فيما بعد إبان حكم ولد الطائع إلى إعلان حرب على الدعوة والمساجد في فترتين كانت حملة 2003 أكثرهما شراسة وقوة، وقد ثبت العلماء والدعاة ونافحوا عن الشريعة والدعوة، وأبانوا عن تضحيات جسام، أهلتهم لحمل الراية وجعلتهم الأمناء على دعوة وشريعة أوذوا في سبيلها وصبروا على حمل لوائها في السراء والضراء . فأحيوا حب الدعوة والشريعة في نفوس الناس، وأعطوا من أنفسهم القدوة الحسنة في البذل والإخلاص ونكران الذات؛ تأسيا بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ﴿وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله﴾. وقد عرف لهم هذا الشعب الفضل وسابقة الخير ففتح لهم القلوب والبيوت، وحلوا في رحلاتهم الدعوية بمختلف جهات الوطن معززين مكرمين. عند ذلك بدا للدولة أن تساهم في الدعوة ونشر الخير – والله يثيب من أخلص النية وأراد الآخرة وسعى لها سعيها – فافتتحت إذاعة القرآن الكريم بأجهزة وأثير يحتاج في أداء الرسالة إلى دعاة ينشرون الخير ولا يسألون عن الأجرة، فتحمل رواد الإذاعة من صحفيين وقراء ودعاة معاناة الانطلاقة، ومشاق الذهاب والإياب في الحر والبرد، بل كان لبعض المشايخ سيارات فكانوا يوصلون الموظفين إلى بيوتهم في هزيع من الليل. سجلت المصاحف لوجه الله، وأديرت مئات الحلقات المسجلة والمباشرة ابتغاء رضوان الله، وكنا معشر الدعاة والأئمة الملاذ عندما تبلغ القلوب الحناجر في موعد قد اقترب لبرنامج غاب ضيفه، أو سئم المماطلة والاستغلال. نجحت إذاعة القرآن الكريم دون أن نكلف أنفسنا شيئا من المصداقية والموضوعية وعرفان الجميل (بمن نجحت؟)، ثم اعتمدت ميزانية إذاعة القرآن الكريم، وبدأت المغانم فانفض أبناء الأنصار «إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع». وجاء مشروع فضائية المحظرة الموقرة، مصحوبا بتغييب كثير من أوجه الدعوة والعلم البارزين، فلم يكن له ألق الإذاعة، ونضرة الإخلاص المرتسمة على وجوه تلك الكوكبة من الأئمة والدعاة المتوارين عن الشهرة الملذوعين بأمانة الكلمة، وأنها ﴿عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى﴾ مع حملة أخرى مفادها: أن الدعوة والعمل الإسلامي بعد إذاعة القرآن الكريم وفضائية المحظرة الموقرة تحصيل حاصل وتكرار جهد وأن علينا البيعة لوزارة الإعلام والاتصال الوصية على المشروعين العظيمين. فلنفترض أن إذاعة القرآن الكريم وقناة المحظرة كانتا بمستوى الإضافة التي مثلها ظهور موطأ الإمام مالك رحمه الله في البيئة العلمية والدعوية أيام التابعين رضوان الله عليهم واضعين في الحسبان كلما تختزنه الذاكرة الإسلامية والتاريخية عن مكانة الإمام مالك، وورعه وثقته، أفلم يقل الإمام مالك للخليفة المنصور رحمهما الله عندما عرض عليه أن يصدر مرسوما باعتماد الموطأ وحده دون غيره مرجعا للأمة في الفتوى والترجيح فقال الإمام مالك رحمه الله {لا تفعل} والقصة في ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك، ج.1، ص. 102: (أن أبا جعفر قال له: إني عزمت أن أكتب كتبك هذه نسخا ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين آمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها من هذا العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة، وعملهم، فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودالوا له، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوا شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: لو طاوعتني على ذلك لأمرت به، وفي رواية: لأكتبن كتابك بماء الذهب، كما تكتب المصاحف، ثم أعلقه بالكعبة، واحمل الناس عليه، فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن في كتابي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة وقول التابعين ورأيا هو إجماع أهل المدينة، لم أخرج عنهم غير أني لا أرى أن يعلق بالكعبة). لقد رفض الإمام مالك أن يكون كتاب الموطأ على عظمته ذريعة لمصادرة التنوع ومحاصرة الرأي، وأدرك بصدق الفراسة ونور البصيرة أن ما يكتب الخلود للموطأ هو قبس من الإخلاص وحسن النية لا نفس من السلطة والقسوة، وكذلك كان فقد علق الموطأ بسواد القلوب، وتوارثته الأجيال، وتلقته الأمة بالقبول. فهل يتدارك القائمون على مشروعي الإذاعة والمحظرة ما وقعوا فيه من الخطأ؟، وما أوقعوا السلطة فيه من الإغراء بالمؤسسات الخيرية والجمعيات التعليمية والدعوية؟، وهل ينتصر الرئيس لمذهب الإمام مالك؟ ويسمع صوته من وراء الحقب والسنين: لا تفعل. |